في داخل كل شخص منّا “إرهابي مستتر” لا نستطيع اكتشافه؛ لأنه يتلبس بجوهر مثالي، ولكننا نسمعه أحياناً يوسوس لنا ببعض الخواطر المتعلقة بإبادة الآخر المختلف. فقد فطر الله الناس على نشدان الكمال والنزوع نحو “النموذج المثال”؛ ليصلوا إليه كنموذج للمثل الأعلى، وتشتعل أشواقهم إلى الفردوس المفقود على وجه الأرض، والذي يتجسد في الحياة الأبدية، والموعد الفصل لتطبيق العدالة المطلقة.

ولكن قصة العنف البشري المؤدلج، تبدأ بانحراف مسار النزوع المثالي، حين يحرص بعض أصحاب النزعات المثالية على تجسيد الفردوس المفقود على وجه الأرض في صورة يوتوبية لعالم تسوده العدالة المطلقة، وتصطدم هذه الصورة، باختلاف مدراك البشر، وتعقد الظاهرة الإنسانية؛ وقلّما يتفق الناس على تصور ما للتغيير، ولابد أن تظهر التباينات وتظهر قوى معادية لأي تغيير يهدد مصالحها.

وفي هذا السياق تتبلور تنظيمات مثالية تحاول فرض يوتوبياتها بالقوة وتبرز نظريات الثورات الراديكالية العنيفة في مقابل نظريات الإصلاح التدريجي وتتحول بعض تيارات الثورة الراديكالية إلى تيارات عنف مدمر وتجد هذه التيارات مبررا أخلاقياً لممارسة العنف في مواجهة كل من يقف في طريق تحقيق اليوتوبيا المتوهمة، فكل واقف في طريق اليوتوبيا- طريق بناء المدينة الفاضلة، أو مملكة الله في الأرض- مجرد شيطان، أو أمثولة الشر يجب التخلص منها، ولو بارتكاب المجازر الجماعية.

الإرهابيون المؤدلجون ليسوا أشراراً بالصورة التي تجسدها المخيلة الشعبية للأشرار، ففي جوهر كل إرهابي كائن مثالي مشدود إلى مثل أعلى ورغم بشاعة جرائم بعض الجماعات الإرهابية الدينية فإننا نجدها عندما تفرض نفوذها على منطقة ما، تحاول تجسيد مثاليتها في تحقيق العدل والأمن -ويمكننا هنا استثناء نزعات التطرف العرقي أو الجماعات ذات الطابع المخابراتي- فأخطر جينات العنف تكمن في الفطرة البشرية المشدودة إلى البحث عن الكمال المطلق والتماهي مع حالة من الطهورية المثالية الخيالية وقد يتجسد هذا المثال عند الإنسان في صورة زعيم قائد تتوفر له كاريزما القيادة فتتخلق حوله عقيدة الولاء، ويصبح نموذجا للمثال الأعلى وغير قابل لأي مقاربة نقدية ولا مكان لمعارضته ومصير معارضيه القتل والاقصاء والتهميش ويتقبل الضمير الجمعي المتشبع بالولاء للزعيم ممارسة جميع أنواع العنف ضد المعارضين ولو كانت العقوبة إحراقهم أحياءً أو استخدام المبيدات النووية، وقد تتبدى النزعة المثالية في نظرية سياسية لتطبيق العدالة أو الاعتقاد بالتفوق العرقي أو القومي .

لهذا جاءت الأديان لاستئصال جوهر الإرهاب الرابض في النزوع المثالي لإيجاد الفردوس المفقود على الأرض. فأكدت وجود عالم آخر للفردوس، يتجسد فيه العدل المطلق؛ ولهذا اتهمها أرباب النزوع المثالي، بأنها أفيون للشعوب، تقتل قابلية الإنسان للتحريض على ممارسة القتل والإبادة من أجل صناعة عالم أفضل على الأرض ولا تقبل جرائم ستالين ولينين وجميع حركات العنف الثوري الراديكالي التي تسربت مؤخرا إلى التيارات الدينية.

كان المفكر الإسلامي اليوتوبي سيد قطب من أهم قنوات تسرب النزعة المثالية الماركسية فحاول التبشير بيوتوبيا دينية لمملكة الله في الأرض تحاكي النموذج الشيوعي للعدالة الشمولية المطلقة. ولهذه النزعة أهمية عميقة في التحفيز على التغيير وتكمن أهميتها في خلق حالة التوتر بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. فالنزعة المثالية ليست شراً مطلقاً. وكيف لها أن تكون أمثولة للشر، وما قامت إلا لاجتثاث الشر؟! ومن المناسب هنا الإشارة إلى ما ذكرته مؤلفة كتاب “المدينة الفاضلة عبر التاريخ” بمقدمة الكتاب في قولها:”حين تشير اليوتوبيا إلى الحياة المثالية دون أن تتحول إلى خطة، عندئذٍ تستطيع بجدارة أن تصبح هي التحقيق الواقعي للتقدم” ولهذا ترى الكاتبة أن مشكلة اليوتوبيا السياسية هو ميلها إلى تشكيل الرؤى المثالية في مخططات تنظيمية صارمة، يحرص أتباعها على الالتزام بها التزاماً يتسم بالطابع الأيديولوجي. الأمر الذي يجعلها عاجزة عن الاستجابة لتعقيدات الحياة الإنسانية والبشرية. وهذا بالضبط ما يشرح الفرق بين سيد قطب باعتباره مفكرا ملهماً، وبين من حاولوا ترجمة أفكاره اليوتوبية ترجمة فقهية أو سياسية تورطت في صناعة ثقافة العنف والتطرف عند بعض المدارس الدينية.

نزعة العنف في الثقافة الإسلامية السنية تحديداً تبلورت من نزعتين مثاليتين: نزعة سلفية توحيدية بالغت في الحديث عن النقاء التوحيدي العقدي وفق قوالب صارمة سمحت لها بتكفير المخالفين الموسومين بالشرك وتجويز ممارسة العنف بحقهم. ونزعة قطبية حولت المثالية العقدية إلى مثالية اجتماعية وسياسية وارتكزت على ذات المرتكز التوحيدي فخرجت لنا جماعات دينية تبحث عن الفردوس المفقود الذي سيسود الأرض بعد تطبيق الشريعة وفق تصورات مثالية جامدة غير قابلة للتجديد. وكان من السهل أن تتحول هذه الجماعات إلى تيارات عنف في ظل الاحتقانات السياسية والاجتماعية التي يمر بها العالم الإسلامي ووصلت خطورة هذه التيارات إلى الذروة عندما امتلكت تكوينات عسكرية وحاولت فرض يوتوبياتها بالقوة تحت غطاء أخلاقي يوفره الإحساس بطهورية الفكرة وما تحمله من خلاص للبشرية، والاعتقاد كما أشرنا سابقا بأن جميع من يقف ضد الفكرة أو يعترض عليها شيطان أو نموذج للشر لابد من التخلص منه وتوافرت البيئة المناسبة في ظل اختلالات سياسية حادة، وتداعيات موجة الربيع العربي الثورية التحررية.

ما نود تأكيده أن هذا العنف ظاهرة إنسانية وليس نتاجا خاصاً بداعش العراق وسوريا أو تنظيم القاعدة أو الحركة الحوثية الشيعية في اليمن أو الإسلام كدين. ولو تأملنا في تاريخ عنف النزعات المثالية الفلسفية لوجدنا أن ضحايا هذا النمط من العنف يزيد بكثير على ضحايا العنف الديني. فقد انطوت الأديان السماوية على منهجيات لتهذيب هذه النزعة البشرية المثالية بآفتيها:النزوع نحو الزعيم المثال، أو النزوع نحو الفردوس المفقود، فجعلت المثل الأعلى لله فقط على المستوى الفردي، وجعلت الدار الأخرة هي الموعد الحقيقي لتطبيق العدالة المطلقة. واعتبرت الدنيا دار ابتلاء واختبار، ولم يكلفنا الله بإيجاد مجتمع خالٍ من الشرور بصورة مطلقة. ولو حدث ذلك لانتفت مقومات الابتلاء والاختبار القائمة على حرية الاختيار والكسب البشري والتدافع المطلوب لتحريض العقل البشري، على إيجاد آليات لإدارة اختلافاته، واحترام تنوعاته دون بغي أو طاغوتية، تتورط فيها نزعات مثالية، تعتقد أنها وحدها تمتلك الحقيقة والحلول المثالية، وأنها الوحيدة القادرة على تطبيق هذه الحلول.

من هنا نستطيع أن نجزم أن معظم اتجاهات ومدارس العنف ليست دينية المنشأ، مع تأكيدنا على أن هذه النزّعات تسربت الى تيارات دينية مشبوبة بعواطف إيمانية في ظل بيئة تعيش حالة من الاحتقان السياسي أو الاجتماعي ومركب الفقر والجهل والاستلاب مع الحضور الطاغي لبعض الفلسفات الوافدة. وفي تاريخنا العربي بدأت هذه النزعات تتبلور قبل الإسلام في ظاهرة صعاليك جزيرة العرب، وبعد الإسلام في خوارج جزيرة العرب والمغرب العربي، وفي بعض مدارس آل البيت، وكانت هذه النزعات العنيفة ذات طابع تكفيري لا تؤمن بإيمان مرتكب الخطيئة ولا تعده مسلماً، فلا هامش لديها للتسامح مع الخطأ لأنها تقوم على أساس النقاء الأخلاقي المثالي، بخلاف مدرسة أهل السنة والجماعة الذين يؤمنون بزيادة الإيمان ونقصانه. فقد اتسمت مدرسة أهل السنة والجماعة بقدر كبير من الواقعية ورفضت ممارسة العنف لفرض الخيارات السياسية بالقوة غير أن واقعية هذه المدرسة تحولت في بعض الممارسات والتجارب الى نوع من الرضوخ والاستسلام للواقع لا سيما مع ظهور فتاوى تحرم مجرد المعارضة السلمية للحاكم الظالم.

ومع حدوث بعض الانحرافات في التطبيق فإن العنف الممارس باسم الدين يعد أقل أنواع العنف. ولو قارنا مثلا جميع جرائم اليهود الممارسة باسم الدين، بجريمة واحدة فقط ضد اليهود أنفسهم، ارتكبها معتوه بشري علماني باسم الفاشية؛ لوجدنا أن جريمة هتلر فقط تتفوق على جميع جرائم اليهود من بداية ظهور اليهودية وحتى الآن. ولكن لماذا يركز الناس بصورة كبيرة على الجرائم ذات الطابع الديني؟ لأن الناس – المتدين منهم وغير المتدين- يستبطنون نظرة قداسة مثالية تجاه الأديان تستعظم أي خطأ يرتكب باسم الدين. ولو لاحظنا الكم الهائل للجرائم التي ترتكب في أدغال القرن الافريقي والمذابح التي تستهدف آلاف المسلمين وغيرهم، لأدركنا كيف يتم تجاهل هذه الجرائم مع التركيز على جرائم جماعة – بوكو حرام الانتقامية والعدوانية- ولعرفنا بعض أسرار هذا التركيز بعيدا عن التوظيفات الإعلامية.

عموما ستظل المخيلة البشرية تستبشع بصورة كبيرة أي جريمة إنسانية باسم الدين وتتسامح مع جرائم أكبر ليس لها غطاء ديني ما دامت المخيلة البشرية مسكونة بقداسة الدين عاجزة عن الفصل بين جوهر الدين وتجارب التدين. وليس في ذلك أي إساءة للدين فهذه الحساسية البشرية تجاه جرائم العنف ذات الطابع الديني تؤكد إحساس الناس أن الدين في جوهره ضد العنف والإرهاب وهو إحساس صادق مهما أخطأ البعض في طريقة التعبير عن هذا الإحساس.