إصلاح الهشاشة المزمنة للدولة المصرية

أصدرت مؤسسة صندوق السلام تقرير الدول الهشة لعام ٢٠١٤ والذي يرتب مصر في المرتبة ٣١ ضمن ١٧٧ دولة. يقدم التقرير حقائق دامغة عن الوضع المصري٬ وهو ما يساعد في فك الكثير من الالتباسات وتوجيه السياسات وترتيب الأولويات السياسية والاقتصادية سواء للحكومة أو المعارضة. وفقا للتقرير؛ فإن مصر تعتبر دولة على حافة الفشل منذ عشر سنوات على الأقل وهو ما ينفي تهمة “إسقاط الدولة” من على كاهل الثورة المصرية التي اشتعلت شرارتها عام 2011. لا يعتمد التقرير على تقديم علاج سريع للفشل، لكن يقدم أضواء علي القضايا الحرجة التي يتعين التقدم فيها من أجل تحسين وضع الدولة وحمايتها من الفشل في حالة استمرارها في نفس السياسات لفترة أخرى. وتتمثل هذه القضايا التي تحتل الأولوية لأية حكومة لحماية بلدها فعليا من الانهيار في: تحسين وضع حقوق الإنسان، خلق نظام سياسي ديمقراطي، إجراء إصلاحات إدارية جدية، وآخرها هو دعم خطط اقتصادية لامركزية.
ظلت مصر لسنوات عديدة تتردد بين وضع سيىء وأسوأ على مؤشر الدول الهشة، ففي ٢٠٠٥ كان ترتيب مصر ٣٨ ضمن ١٤٦ دولة، وهو ما يعني استقرارها بين مجموعة “الإنذار” التي تعني الدول من ٣٥ إلى ١٣٨. لم يمض عام بعدها ثم انزلقت لتكون في المركز ٣١ ضمن ١٧٧ دولة لتنضم إلى مجموعة “الخطر” والتي تعني الدول من ١ إلى ٣٤. استعادت مصر مكانتها في مجموعة الإنذار مرة أخرى في الفترة من عام ٢٠٠٧ إلى عام ٢٠١١ وذلك بسبب النجاحات الاقتصادية لحكومة أحمد نظيف، والتي رغم ذلك لم تستطع منع الثورة بسبب محدودية تأثيرها منفردة على قوة الدولة. والآن في ٢٠١٤ فإن ترتيب مصر هو ٣١ والذي لم يتغير كثيرا منذ عام ٢٠١٢ في داخل مجموعة الخطر التي كانت فيها في عام ٢٠٠٥ وهو ما يعني بشكل مباشر أن الثورة لم تتسبب في إضعاف الدولة، بل الصحيح هو العكس: الدولة الهشة هي التي استحقت الثورة عليها.
يتكون مؤشر هشاشة الدول من اثني عشر مؤشرًا فرعيًّا يغطي أبعاد القوة أو الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية. يقع ضمن هذه المؤشرات خمسة مؤشرات استمر ضعفها بشكل ملحوظ منذ عام ٢٠٠٥ إلى الآن، وهي: انتهاكات حقوق الإنسان، ازدياد انقسام النخبة، نزيف شرعية الدولة، تزايد مظالم الناس وتهميشهم، وتدهور الحالة الاقتصادية وانتشار الفقر. وحين نقوم بتحليل هذه المؤشرات الخمسة مجتمعةً منذ ما قبل الثورة وإلى الآن نستطيع بشكل أفضل فهم أبعاد هشاشة الدولة المصرية بشكل أفضل، ويمكن أن نرى بسهولة كيف أن الإهمال والفساد السياسي والاقتصادي، والأهم منه الفقر المعرفي للنخبة الحاكمة والمعارضة، أنتجت فشلا مركبا ومزمنا يحتاج إلى عمل دؤوب وتفانٍ من الجميع للخروج من الوضع القائم.
أهم المؤشرات الخمسة كان تدهور حالة حقوق الإنسان إلى مستويات حرجة، حيث يشير إلى أن حالة حقوق الإنسان متدهورة بالفعل منذ عام ٢٠٠٥ (بلغت ٧.٧ حيث إن ١٠هي الأسوأ) لكنها في ٢٠١٤ هي الأسوأ على الإطلاق ببلوغها ٩.٧ نقطة. يعني هذا أنه في تلك السنوات العشر لم يتوقف انتهاك كرامة المصري، ولم يتحقق الاستقرار أيضًا على عكس ما هو متوقع. تشي مقاربة السنة الأخيرة بعد الإطاحة بمرسي بباقي العشر السنوات الماضية أنها الأسوأ على الإطلاق من حيث تكميم الأفواه، وتقييد الحريات، واضطهاد المعارضين السياسيين، وازدياد التعذيب في السجون لمستويات غير مسبوقة، نهاية بارتكاب المذابح الجماعية.في حين أنه لايقتضي تحسين هذا المؤشر سوى اتخاذ قرارات هي من صلاحيات القيادة السياسية، منها على سبيل المثال: العفو عن المعتقلين السياسيين، إلغاء التعذيب ورفع الحصانة عن المنتهكين، إلغاء قانون الطوارئ، وتحرير الإعلام. مثل هذه الإجراءات قد تساعد في تخفيف الاحتقان السياسي والمجتمعي، وإعادة بناء الثقة في المجال السياسي، وتقليل التوترات السياسية قبل الشروع في حوار وطني حول مستقبل العملية السياسية.
المؤشر الذي احتل المركز الثاني في الخطورة كان مؤشر انقسام النخبة المصرية، الذي لم ينخفض عن ثمان نقاط منذ عام ٢٠٠٥، بل تدهور إلى٩.٤ نقطه في عام ٢٠١٤. ويعدُّ انقسام النخبة المصرية ناجمًا بشكل أساسي عن عدم وجود مؤسسات سياسية تتوسط بين المصالح، وتقوم بحل النزاعات بشكل سلمي على المستويات المحلية والقومية، حيث يعني عدم وجود هذه المؤسسات اللجوء إلى الشارع من قبل المعارضة، واللجوء إلى القمع من قبل السلطة. وتعدُّ فرصة النظام للخروج من هذا المأزق هي انتهاز قدوم الانتخابات البرلمانية لضمان تمثيل كل المصريين فيها وجعلها فرصة للمصالحة عبر إصلاح مؤسسي مستدام. يتطلب هذا إعادة النظر في قانون الانتخابات المثير للشكوك حول قدرته على إنتاج برلمان قوي وممثل. حيث إنه بدون مثل هذه الإصلاحات لن تجني مصر غير مزيد من الاحتقان والاستقطاب الذي سيضعف الدولة وسيزيد من هشاشتها. يجب كذلك أيضا فتح النقاش حول الانتخابات المحلية لتحقيق إصلاح تدريجي من أسفل، ومحاربة الفساد، والأهم من ذلك إتاحة فرصة لاستثمار طاقة الشباب وامتصاص غضبهم في عملية سياسية بناءة.
الإصلاح الإداري أصبح أيضا لا مفر منه، ليس فقط لضرورات النمو الاقتصادي، لكن أيضا لمحاربة الفساد وزيادة المشاركة المجتمعية في صنع وتنفيذ السياسات العامة؛ حيث يشير التقرير إلى أن ثالث ورابع أسوأ مؤشرين في عام ٢٠١٤ كانا لشرعية الدولة ولمظالم الناس؛ حيث حصلا على ٩ و٨.٦ من النقاط بالترتيب. تستطيع الحكومة استعادة شرعية الدولة عن طريق تنفيذ برامج محددة لمحاربة الفساد في أحد القطاعات الحيوية لخلق حالة نجاح تستطيع استخدامها في إثبات أن القضاء على الفساد ممكن بالفعل. وبإمكان الحكومة أيضًا حشد التأييد الشعبي -على سبيل المثال- عن طريق تخفيض الفساد بشكل ملموس في قطاع الأغذية الذي يستفيد منه الفقراء والطبقة الوسطى وهم يتجاوزون مجتمعين أكثر من ثلثي المصريين. وباستخدام نفس سياسة البرامج المهدفة، يمكن للحكومة تحسين الخدمات عبر التركيز على تحسين التعليم الابتدائي، على سبيل المثال؛ عن طريق تنفيذ حزمة تدريب للمدرسين، وتأهيل للمدارس٬ وتطوير للمناهج. مثل هذه البرامج ستساعد في تحسين الخدمة وإعادة الهيبة للدولة، وخلق مناخ ثقة يساعد على تنفيذ إصلاحات أكبر في المستقبل.
مع ازدياد معدلات بطالة الشباب لتصل إلى نسبة ٢٥٪ وانفلات التضخم، وتدهور نسب النمو الاقتصادي؛ وصل مؤشر الفقر والتدهور الاقتصادي إلى درجة غير مسبوقة في عام ٢٠١٤ بـ ٧.٩ نقطة. فشلت السياسات الاقتصادية الموجهة بالنمو التي تبنتها الحكومة في الأعوام الأولى من الألفية الجديدة في توليد وظائف كافية وإخراج نسبة كبيرة من المصريين من الفقر والعوز. يؤكد التقرير هذه الحقيقة حيث يوضح أن الفقر والتدهور الاقتصادي أصبحا اتجاها عاما منذ ٢٠٠٦عام ولم يتوقفا إلى الآن في عام ٢٠١٤. هنا يجب على الحكومة أن تتخذ من الإجراءات ما يساعد الفقراء على الخروج من ربقة الفقر نهائيًا .. ولا يبدو أن هذا هو ما تقوم به الحكومة، حيث إن الإجراءات الأخيرة لخفض الدعم من المؤكد أنها سوف تزيد الفقر بعد إطلاقها للتضخم المصاحب لكساد متوقع، إلا أنه من غير المؤكد أنها سوف تحقق الهدف الأصلي منها وهو تخفيض عجز الموازنة. على صعيد آخر، وعلى المستوى المحلي، يمكن للحكومة أن تنعش النمو المحلي وتخلق الوظائف عن طريق تحقيق تنمية اقتصادية متوازنة. وحيث إن الاستثمار هو الوجه الآخر للبطالة٬ فإن تنفيذ برامج لخلق الوظائف وتقليل الفقر في المحافظات الأكثر تهميشا في الصعيد مثل المنيا وأسيوط؛ سوف يؤتي ثماره الاقتصادية والسياسية سريعا في صورة نمو إقليمي متوازن وشرعية قوية للدولة. على المستوى القومي يحتاج رجال الأعمال إلى ضمانات باستقرار النظام السياسي، وهو ما يحتاج إلى المضي فوراً في المصالحة الوطنية، واحترام حكم القانون ومحاربة الفساد. بالإضافة إلى ما هو أكثر أهمية وإلحاحا من كل ذلك، وهو: تقديم رؤية اقتصادية واضحة عبر الإجابة على الأسئلة الآتية: ماهي القطاعات الاقتصادية القائدة؟ كيف تتكامل مصر وتنافس في اقتصاد معولم؟ ما هو دور الحكومة مقابل دور القطاع الخاص في تنفيذ هذه الرؤية؟
كيف سيكون ترتيب مصر في ٢٠١٥ في مؤشر الدول الفاشلة؟ يتميز المؤشر بكونه مباشرا، لذلك لا توجد مساحة للتكهن بما هي الإجراءات الضرورية لتحسين الترتيب ومنع التدهور نحو الفوضى الناجمة عن الهشاشة. وسيؤدي عدم الحسم باتجاه هذه القضايا المهمة (حقوق الإنسان، النظام السياسي الديمقراطي، الإصلاح الإداري، التنمية الاقتصادية المتوازنة) إلى تعميق الهشاشة مع احتمال أن تستقر مصر عند نفس الدرجة، أو تتحسن بعض النقاط فترتفع للأعلى، لكن مع استمرار الحال على ما هو عليه لن يكون ذلك بسبب كونها أصبحت أكثر قوة، لكن بسبب أن الآخرين قد أصبحوا أكثر ضعفا.
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة