محمد ضيف ... فارس بلا جواد! قراءة إسرائيلية للعقل المدبر في غزة

لم يعتد المجتمع الدولي على رؤية جيوش كاملة تتحرك لقتل شخص ما، مثلما يتحرك الجيش الإسرائيلي لاغتيال قيادات وكوادر فلسطينية تنتهج الخط المقاوم والمشروع، وهي الشخصيات التي يعد اغتيالها "انتقائياً" بداية لمرحلة جديدة ومفصلية في تاريخ الصراع العربي/ الإسرائيلي.
لا يعلم البعض أن الفلسطينيين حاربوا العصابات الصهيونية التي مهَّدت لإنشاء دولة إسرائيل، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وربما قبل ذلك بكثير، بعد انتشار عمليات الاحتيال اليهودية، وشراء الأراضي الفلسطينية، ولعل نموذج عز الدين القسام، السوري الأصل، هو الأبرز في هذه الفترة التاريخية، إذ يعدّتاريخ استشهاده نهاية العام 1935، بداية لثورة فلسطين الكبرى، والتي امتدت لثلاث سنوات كاملة، من العام 1936، وحتى العام 1939، وهي أطول ثورة عرفتها البشرية، حتى الآن؛ فالقسام الذي استشهد على يد العصابات الصهيونية هو الرمز والأيقونة للمجاهدين في العالمين، العربي والإسلامي، والذي يعد اغتياله سبباً جوهرياً في تلك الثورة.
ولعل من قبيل المصادفة أنه من بين الأهداف الرئيسةلاندلاع الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، اغتيال محمد الضيف، القائد العام لكتائب عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، مثلما كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان، يوليو 2006، سبباً لاغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، وكذا الحرب قبل الأخيرة على قطاع غزة، عملية "عمود سحاب" (نوفمبر 2012)، والتي استهلت باستشهاد أحمد الجعبري، نائب القائد العام لكتائب القسام، أو رئيس هيئة أركانها، آنذاك، أو غيرها من الحروب والعمليات العسكرية الإسرائيلية التي انطلقت بهدف القيام بعمليات اغتيال انتقائية لقادة وزعماء وكوادر ونشطاء فلسطينيين وعرب.
الجيش الإسرائيلي وأجهزة المخابرات الصهيونية الثلاثة("الموساد" المخابرات الخارجية، و"الشاباك" المخابرات الداخلية، و"أمان" الاستخبارات العسكرية) خرجت مئات المرات للقيام بعمليات اغتيال انتقائية، بدأتها بالقسام، وترغب في قائد كتائبها الحالي محمد ضيف، ومرت طوال العقود الماضية بنماذج فلسطينية وعربية مشرِّفة، مثل عرفات، وأبو جهاد، ويحي عياش، والرنتيسي، وأحمد ياسين، والحسيني، وحسن سلامة، وغيرهم ممن ارتقوا إلى خالقهم شهداء(1). ولما كان لضيف - قائد كتائب القسام - القيادة الفعلية لقوات حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال الصهيوني، وقيادته لقطاع غزة فعلياً، بعيداً عن هنيه أو مشعل، وكذا دور ضيف البارز في تأليب العالم على إسرائيل، وتكبيدها المئات من القتلى والجرحى؛فقد أولت وسائل الإعلام الإسرائيلية، الصادرة باللغة العبرية، الاهتمام الجارف به، ونشرت له عملياته المهمة، خاصة بعد المحاولة الفاشلة لاغتياله، في التاسع عشر من الشهر الجاري(2).
لم يول الإعلام الإسرائيلي الاهتمام بفشل المفاوضات الفلسطينيةـ الإسرائيلية في العاصمة المصرية القاهرة، وإنما انصب الاهتمام على فشل عملية اغتيال محمد الضيف بعد استهداف مروحيات إسرائيلية لمنزله في حي الشيخ رضوان شمال قطاع غزة، والذي لم يكن موجوداً فيه أثناء محاولة الاستهداف، في حين استشهدت زوجته وابنه الرضيع(3)، وربما نتيجة لارتباك القيادات السياسية والعسكرية في تل أبيب بعد فشل تلك المحاولة، قرر وزير الحرب الإسرائيلي يعالون، إراقة المزيد من الدماء الفلسطينية الزكية(4)، في وقت لم تعلم إسرائيل أنه حتى مع اغتيال الضيف، فإن بغزة وغيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلة المئات من محمد الضيف، الذي يحمل كل منهم راية " الجهاد المقدس " حتى يندحر الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، ويعود إلى غير رجعة!
لن يعود الاحتلال إذا تقلص أعداد العملاء والخونة الموالين لإسرائيل، إذ من الصفات الحميدة للضيف وغيره من قادة حماس، وغيرها من الفصائل الفلسطينية الحالية هو تقليل عدد المرافقين، ناهيك عن قتل العشرات من العملاء الفلسطينيين في غزة، في العام 2007، حينما سيطرت حماس على القطاع، لتنجح الحركة في مواجهة الجيش الإسرائيلي بدون طابور خامس، وعدم تيقن الإسرائيليين من أهدافهم في القطاع لانقطاع المعلومات اللوجستية عنهم، وربما كان ذلك سبباً جوهرياً في تكبد الجيش خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، فقد "وجد عفريتًا في كل حارة فلسطينية"، وهو ما لم يعتد عليه الإسرائيليون من قبل، فبات الضيف وغيره من القيادات الفلسطينية يتحركون بسهولة، بعض الشيء، بعد القضاء على أحد مسببات الهزيمة الفلسطينية الدائمة؛ ولعل من الجدير ذكره تصاعد نجاح المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، منذ العام 2007، أي إن القضاء على العملاء الفلسطينيين في غزة سببفي تسجيل تلك النجاحات الفلسطينية، الواحدة تلو الأخرى!
"الهدف محمد الضيف" احتل هذا العنوان، صدارة الصحف الإسرائيلية، الصادرة باللغة العبرية، طيلة الساعات التي تلت المحاولة الفاشلة لاغتيال الضيف، في التاسع عشر من الشهر الجاري، وهو اليوم الثالث والأربعون للحرب، بمعنى أن إسرائيل بحثت عنه طيلة الأيام الماضية للحرب، دون جدوى، فليس الضيف أسطورة فلسطينية ذهبت أو ستذهب أدراج الرياح، ولكنه بمثابة "الرمز" أو "الأيقونة" لقيادات فلسطينية تعمل في الخفاء، بكل هدوء وسكينة وترو، وكأنه فارس بلا جواد، يمشي بين الفلسطينيين بوجوه مختلفة، ولكن بثقة وتؤدة، لم يعهدها الفلسطينيون من قبل، فصار الضيف اسماً على لسان كل فلسطيني، لم يضاهه مشعل أو هنية، حتى الآن!
بعيد فشل عملية اغتيال الضيف، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" تقريراً مفصلاً ومطولاً عن الضيف، قصَّت فيه حياة "الهدف" الرئيس لنتانياهو، في المرحلة الراهنة، والذي حاول اغتياله قبيل توقيع اتفاق التهدئة مع الفصائل الفلسطينية في القاهرة، ونشرت صورة ترجع إلى عقدين ماضيين له، دون معرفة لخطوط سيره، سواء في القطاع أو الضفة، أو غيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكأن الصحيفة تشير إلى "أسطورة" احتارت فيها أجهزة المخابرات الإسرائيلية الثلاثة، بعدما أقرت بكثرة محاولات اغتياله منذ العام 2001(5). في وقت رأت صحيفة "هاآرتس" أن رئيس الوزراء الإسرائيلي حاول تقديم "هدية" للجمهور الإسرائيلي قبل إنهاء الحرب، ممثلة في اغتيال أحد القيادات الفلسطينية التي حيرَّت إسرائيل كثيراً، لكنه فشل في مهمته، كما فشل في إدارة الحرب على غزة، ليصنع بدوره نجاحاً أسطورياً للضيف، وغيره من تلك القيادات التي ألَّبت الشارع الإسرائيلي على صنَّاع قراره في تل أبيب(6).
لم ينجح كثير من القيادات والرموز والكوادر والنشطاء الفلسطينيين في تأليب الشارع الإسرائيلي فحسب على قياداته، بل والمجتمع الدولي ككل، إذ عكفت إسرائيل على القيام بعمليات اغتيالات انتقائية لرموز فلسطينية بهدف التخلص من فكرة المقاومة(7)، واستئصال شأفة المقاومة لدى الفلسطينيين ككل، وكأن المقاومة توقفت عند حد تلك الرموز فحسب، ولم تعلم تل أبيب أنه مع اغتيال فلسطيني يولد عشرات الفلسطينيين الآخرين الذين يحملون لواء الجهاد المقدس ضد المحتل الغاصب، وكأنهم كنجمة البحر، كلما انقطع أحد أجزائها تولدت لديها أجزاء جديدة، خاصة وأن الضيف، على سبيل المثال، يتمتع بمهارات ومؤهلات تجعله يهرب من محاولات اغتيال تعدت الخمس محاولات، وكأنه "فارس بلا جواد"، إذ يحيط به الغموض، ويكتنفه الهدوء الشديد، والتركيز والذكاء في التعامل مع أقرانه، كما إن لديه حرصًا شديدًا على الابتعاد عن الأنظار، وكأننا أمام قصة حقيقية لفارس بلا جواد، والتي كتبها الممثل المصري محمد صبحي، وخرجت إلى النور في العام 2002، في مسلسل تليفزيوني نال شهر كبيرة، خاصة بعد رفضه من إسرائيل، وإدانتها للقاهرة حيال ذلك!
قصارى القول، إن الضيف وغيره من القيادات الفلسطينية التي تعمل في الخفاء تتخذ من المقاومة المشروعة منهجاً وأسلوباً في التعاطي مع إسرائيل(8)، ولن يكون قطاع غزة حاضناً للمقاومة الفلسطينية المشروعة فحسب، وإنما يخرج منها شعاع تلك المقاومة لينشر نوره وضياءه في ربوع الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة وأن الضفة الغربية تتأهب للقيام بثورة أو انتفاضة فلسطينية جديدة تتواصل فيها مع الأهالي في غزة، كبداية جديدة لدحر الاحتلال الإسرائيلي.
1- دكتور مردخاي قيدار، قلق على مصيرهم: الاغتيالات الإسرائيلية الناجحة شلَّت حماس، معاريف، 21/8/2014.
2- إلياور ليفي وروعي قيتص، مصير ضيف غير معروف وسيتم دفن زوجته وولده ظهراً، يديعوت أحرونوت، 20/8/2014.
3- عاموس هرئيل، محمد ضيف: من قادة المطلوبين والذي نجا من أربع محاولات اغتيال، هاآرتس،20/8/2014.
4- كيف ولماذا فشلت محاولة اغتيال محمد ضيف، ديفكا،
5- روعي قيتص، حماس: إسرائيل حاولت إغتيال محمد ضيف، وقتلت زوجته وإبنه، يديعوت أحرونوت، 20/8/2014.
6- جاكي خوري، حماس: محمد ضيف لم يصب وسيحرر الأقصى،هاآرتس،20/8/2014.
7- ليفني: أؤيد عمليات القتل الانتقائية لاستمرار الردع، يديعوت أحرونوت، 20/8/2014.
8- إليشع كاهان، حماس أعلنت: محمد ضيف سيكون القائد العسكري لتحرير الأقصى، معاريف، 20/8/2014.
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة