كثيرا ما نؤكد على أن المثقف العربي يضع نفسه في موقف المحكوم بالفشل والتبعية، ولم تكن معركة غزة المجيدة إلا مناسبة جديدة تؤكد هذا الفشل. لا نتكلم هنا بطبيعة الحال عمن لاموا الضحية وأيدوا الجلاد، فهؤلاء كَفَوا غيرهم مهمة تعرية خطابهم، ومواقفهم أحطّ من أن توصف حتى ب”الفشل”، بل نحن هنا نتكلم عن مثقف عربي  يتوفّر على الحد المعقول من الانتماء للأمة في تاريخها أو حاضرها، ويعتبر نفسه مسؤولا أمينا عن توصيف وتحليل وتقويم ظواهرها المعاصرة بالحدّ الأدنى من سلامة الضمير واستقامة الأخلاق.

هذا الفشل اتخذ أشكالا متعددة ومتكرّرة تكاد تصبح نمطا، ووصفة جاهزة للفشل، لا ندري سببا للتمسك بها، ونحاول هنا على الأقل تبيان بعض أوجهها:

أولا: الفشل في الإنصات للظاهرة:

لا شك أن الثقافة أو الفلسفة ذات طابع كلّي، مشغولة بالنماذج والأنماط، وتقبل في سبيل ذلك أن تضحّي ببعض التفاصيل والجزئيات في طريقها إلى نماذجها. لكنّها بالضرورة منصِتة للظاهرة، وحريصة على استكناهها، ورصد جزئياتها، والكشف عن ارتباطاتها وعلائقها وبُناها، ومحاولة تحديد الثابت والمتحول فيها. بل لقد ذهب هيغل أبعد من ذلك حين شبّه الفلسفة ب”بومة مينيرفا” التي لا تظهر إلا حين يرخي الليل سدوله، في إشارة إلى أن الفلسفة لا تتكلم إلا بعد إنصات طويل تكتمل فيه ملامح الظاهرة وتجلياتها. هذا الإنصات الذي فهمه كثيرون على أنه تراخٍ من الفيلسوف والفلسفة عن تغيير العالم، ومنه كانت مقولة ماركس الشهيرة عن أن الفلاسفة تكلموا كثيرا في تفسير العالم وحان أوان تغييره، هو في حقيقته وعي بما في الفلسفة من بعديّة، أي من انتظار وتأمل وتعليق على ما كان. هنا يقف الفيلسوف في ضفّة مقابلة للمصلح، أو الثائر، أو الداعية.

فهل كان المثقف العربي إذن، في عدم إنصاته لحرب غزة وما رافقها من ظواهر، وفي انطلاقه من مواقف قَبليّة تتكلّم أكثر مما تسمع، مُصلِحا أو ثائرا أو داعية؟ نعم، لقد كان أقرب لهذه الأدوار من حيث الشكل، وحمل ضدَّها تماما من حيث المضمون. لقد امتلك حماسة المصلح ضدّ الإصلاح، واندفاع الثائر ضدّ الثورة، ويقين الداعية ضد سِيَر الدعاة. أي أن المثقف العربي ظلّ يحاول إقناع جمهوره أنه يمتلك برود الفِكر وصبره وانتظاره وقدرته على القراءة الهادئة المتجردة من العواطف، وحين وقعت الواقعة، وجدناه تخلّى عن كلّ ذلك، وأطلق أحكاما متعجلة، واتخذ مواقف مسبقة، وطبّق رؤى جاهزة، وحين أراد أن يتخلى عن وقاره ورصانته، فعل ذلك في الاتجاه الخطأ، فلم يكن مصلِحا حالِما مع أهله وإنما ضدّهم، ولم يكن ثائرا ضدّ المستحيل وإنما لصالحه.

لكم وددنا بالفعل، أن نرى بين مثقفينا من يتعامل مع الظاهرة ببرود يفضي إلى فهمها وتحليلها والقبض على أوجه إبداعها وجدّتها. لم يحدث ذلك ببساطة، وكشف المثقف العربي أن بروده المزعوم وعقلانيته الهادئة وحياده المدَّعى لم يثمر فهما أفضل ولا تحليلا أشمل ولا رؤية أنفذ، بل بدا المثقف أشد نمطية وتقليدية من الجمهور. فأي وجه للجدة ونفاذ النظر يمكن العثور عليه لدى من يحسب حماس وتجربتها الفريدة الخاصة على تجارب الإخوان المسلمين بحيث يفهمها مجردَ امتداد نمطيّ لهم؟ وأي نفاذ في النظر يعكسه حسبان المقاومة الفلسطينية الأصيلة، التي انطلقت بأشد الإمكانات بدائية ومحدودية ثم صمدت وانتصرت، على محاور إقليمية تبيّن أنّها سريعة التغير والتبدّل، بينما المقاومة راسخة في أرضها وناسها ومختلطة بهم ونابعة منهم؟ وأي تماسك في الرؤية يمتلكه من تسرّعوا وشكّكوا في ذكاء المقاومة وقدرتها على التعلم والتطور ومفاجأة أنصارها قبل خصومها؟

خلاصة القول .. لم يمتلك المثقف العربي برود الفكر، وفوق ذلك، تبين أنّه حارّ المشاعر، لكن في الاتجاه الخاطئ تمام

ثانيا: الفشل في تقدير الظاهرة:

ثقافة عصرنا الحديث وفلسفته تنتسب في أكثرها إلى الغرب. هذه حقيقة. وبالتالي فمن المتوقع والمفهوم أن كثيرا من جهدنا الثقافي والفلسفي ينصبّ على مثقفي الغرب وأعمالهم الكبرى ونظرياتهم وأفكارهم. وبناء عليه، فمن المتوقع والمفهوم أن تحظى أحداث الغرب الكبرى باهتمام مماثل، باعتبارها السياق الذي نشأت فيه أفكار مفكري الغرب وفلاسفته. فليس مستغربا أن تشيع في نقاشاتنا ومقالاتنا وكتبنا أحاديث وتحليلات وآراء متعلقة بالثورة الفرنسية، أو الثورة الأمريكية، أو معاهدة وستفاليا، أو الحروب العالمية، أو ثورة الطلاب في أوروبا، أو تفوّق منظومة السوق، أو غيرها.

لكن المستغرب ألا نمتلك الجسارة الكافية للحديث عن ظواهر كبرى في حاضرنا، فضلا عن تاريخنا، تفوق في عظمتها وتأثيرها، علينا على الأقل، كثيرا من ظواهر الغرب.

يشعر بعض مثقفينا بنشوة ملحوظة وهم يسردون أثر ثورة الطلاب في فرنسا أواخر الستينيات على ألتوسير ودولوز، ويصر هؤلاء المثقفون أنفسهم على اختزال الربيع العربي في مقولات جاهزة وتحليلات سابقة عليه، بل يتعدّون ذلك إلى محاكمته إلى نماذجهم المستبطَنة في التغيير ودور المثقف فيه وما يجب أن ينتج عنه. وكثيرا ما تحدث مثقفونا باهتمام عن موقف فوكو من الثورة الإيرانية، لكنهم حين يتعلق الأمر بثوراتنا يتملكهم وقار الحياد المزعوم الذي لا يلبث أن ينكشف عما تحته من خفّة، وفي الاتجاه الخاطئ دائما.

وحرب غزة ليست بدعا من ذلك, فالمثقف العربي فشل في تقدير الظاهرة والتفاعل معها تأثرا وتأثيرا. كان يمكن للنفق، لو وُجد المثقف العربي الذكيّ النابه، ألا يقلّ أهمية في قدرته المفهومية التوليدية عن رايزوم دولوز وغاتاري، فالنفق يفتح إمكانات خصبة للمواجهة، ويضيف بعدا رابعا للحرب التي تنحصر تقليديا في الجو/البحر/البرّ، بعدا قابلا للتولد والتكثّر إلى ما لانهاية، وقادرا على خلق حمولة رمزية شديدة الدلالة حول العلاقة العضوية بالأرض، الأرض/التراب والصخر، أي الأرض بأكثر معانيها عضوية وبدائية قبل أن تصبح جيوبوليتيك، أو حتى مجرّد جغرافيا.

وكان يمكن للمثقف العربي النابه أن يلتقط حرص المقاومة على استهداف الجنود رغم قدرتها على المدنيين، ويتحدى العالم كله في الصورة النمطية التي تظهر المقاوم مخادعا مخاتلا يستهدف النقاط الرخوة والمدنيين والآمنين ويعجز عن المواجهة الحقيقية. كان يمكن للمثقف أن يستثمر إرادة القوة التي تجلّت عند المقاومة وقلبها المتعمّد والدرامي لصورة الضحية السلبية التي تروجها أفلام المحرقة عن الضحية، لتشكّل صورة جديدة لضحية تقاوم وتنتصر، أي قادرة على إبهار الأوروبي ما بعد المسيحي بالتوازي مع إحراجه أخلاقيا.

وكان يمكن للمثقف أن يلتقط تمرّد المقاومة الهايدجري على التقنية، من خلال فهمها للحرب كوجود في الأرض، كطريقة في العيش ونمط للكينونة يسري في دماغ المقاتل وذراعيه وقدميه وسلاحه، لا كعدة تكنولوجية تقوم على الامتلاك والإخضاع، وتقف بإزائه وينبغي لها أن تحميه ثم يكتشف أنها تبتلع قدراته على المواجهة وتسرق منه الوجود الحقيقي في الأرض.

وكان يمكن للمثقف، وهو يرى رفض المقاومة أن تُستغَلّ عدالةُ قضيتها ضدّ حرية الشعوب و حقها في مواجهة مستبدّيها، أن يؤسّس لمفهوم في الحرية يتجاوز الجدل القديم العقيم الذي ينشئ تعارضا بين أولوية التحرير وأولوية الديموقراطية، خصوصا والعدو يتحالف مع أشد أنظمة المنطقة استبدادا ورجعية.

ثالثا: الفشل في قبول أنه ما تزال ثمة سرديات كبرى

حرب غزة، ومثلها الربيع العربي، جاءت في وقت استسلم فيه المثقف العربي للمقولة ما بعد الحداثية المسمّاة “نهاية السرديات الكبرى”، فهذا المثقف الذي توقّف عقله وإنتاجه عند سردية “التنوير” – هذه السردية التي ابتلعت المثقف العربي وجعلته يوظّف في سبيلها حتى الفلسفات العدمية- لم يعد قادرا على فهم أن يصرخ أبٌ غزيّ وطفلته القتيلة بين ذراعيه “فدا للمقاومة، ولحماس، وللقسام”، ربما يصعب على أكثرنا اليوم أن يفهم هذا الموقف، لكن ذلك لا يعفينا بحال من مهمّة الإنصات له واستكشافه والصمت في حضرته ولو لمدة كافية لالتقاط الفكر ومحاولة الفهم. ليس ذنب هذا الأب الغزّي أن المثقف العربي انتقل إلى أفق العدمية والسرديات الصغرى ونهاية التاريخ، وليس ذنبه أن المثقف اليوم يفتقد المعنى، وليس ذنبه أن المثقف العربيّ يكيّف عدته النظريّة للتلاؤم مع مجتمع ليبيرالي متخيَّل تدور نقاشاته حول المثلية والإدمان، فيما مجتمعه لم يجب بعد عن أسئلة الديموقراطية والاستبداد والهيمنة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وقبل ذلك، ما يزال ثمة شعب عربيّ، في بلد عربي محتل اسمه فلسطين، يقاوم عدوّا ما يزال يمتلك من السرديات والقوة ما يسمح له بإلقاء أطنان المتفجرات على منازل يسكنها أدميّون من لحم ودم.