” منذ أن اغتصب الصهاينة منازل وأراضي أهل فلسطين؛ قلّت الشهور والأعوام التي أصبحنا لا نرى فيها جرائم هذا النظام في المنطقة. زادت هذه الجرائم اليوم أكثر من ذي قبل ضد الشعب الفلسطيني وقطاع غزة التي تتمثل في قتل أفراده وتشريدهم”[1].
كانت هذه الكلمات جزء من حديث الرئيس روحاني في اجتماع وزاري عُقد يوم الأربعاء تحدث فيه عن عدداً من القضايا الداخلية والخارجية، من ضمنها التصعيد الاسرائيلي ضد قطاع غزة.
بالطبع أصبحت كلمات الرئيس الحالي تختلف عن كلمات سلفه فيما يخص ما يسمى “الغرب” والتي أخذت موقع جديد تجاه القضية الفلسطينية. ولكن في المقابل استمر خطاب المرشد الناقد للغرب الداعم للاستيطان الاسرائيلي والداعي إلى ضرورة تدمير إسرائيل، في كلمة القاها أمام ألفي طالب جامعي يوم الأربعاء الماضي[2].
السؤال هو: ما موقع القضية الفلسطينية من خريطة الأولويات الإيرانية؟ يأتي السؤال في سياق تبلور عملية مستمرة من التقارب بين إيران والغرب حول الملف النووي الإيراني المتنازع عليه منذ ما يزيد على العقد.
يسعى هذا المقال إلى رصد موقع القضية الفلسطينية وسط تحولات الخطاب الإيراني.
دور التنافس الأقليمي
تكمن إجابة السؤال جزئياً في ديناميكيات القوة الأقليمية بالشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة. ففي نهاية تسعينيات العقد الماضي؛ يبدو أن التنافس الإيراني – العراقي على زعامة العالم الإسلامي كان أحد العوامل الهامة لفهم موقف إيران إزاء التطورات الخطيرة في الأراضي الفلسطينية والتصعيد الاسرائيلي.
بوقوع مذبحة أكتوبر 1990 في الأقصى الشريف بالقدس التي أشعلت موجة من الغضب في العالم الإسلامي, بدأت تظهر ملامح التنافس الخطابي بين إيران والعراق. بعد وقوع المذبحة أخذ مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي زمام المبادرة في الدعوة لدعم القضية الفلسطينية ونقد إسرائيل، والصهيونية، والامبريالية الأمريكية. فُسرت هذه الخطوة بأنها تهدف في جانب من جوانبها إلى الحيلولة دون إعطاء الرئيس العراقي صدام حسين الفرصة لاستغلال الحدث لصالح بغداد [3].
في ديسمبر 1990 تم عقد مؤتمر عالمي بمناسبة الذكرى الثالثة للانتفاضة الفلسطينية. في سياق التنافس الإيراني – العراقي فُسرت هذه الخطوة أيضاً بحرمان القيادة العراقية من لعب دور الدولة القائدة في الدعوة لنُصرة الشعب الفلسطيني [4].
في سياق إعلانه عن قبول إيران لأي حل يرضى به الفلسطنيين؛ أبدى الرئيس هاشمي رفسنجاني عن رغبته في المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام في عُقد في أواخر اكتوبر 1991, لكن على عكس توقعاته لم يتم دعوة إيران للمشاركة بالمؤتمر. رداً علي تجاهل إيران, أعطى مرشد الجمهورية علي خامنئي (الذي أخذ زمام مبادرة الدعوة للقضية الفلسطينية في سياق التنافس مع العراق) الإشارة الخضراء لتنظيم مؤتمر مضاد لمؤتمر مدريد والبدء في بناء علاقات بين طهران وحماس والفصائل الأخرى المعارضة لمؤتمر مدريد [5].
بعد تولي محمد خاتمي للرئاسة؛ بدا أن إيران تعود مرة أخرى لسياسة رفسنجاني المبكرة تجاه القضية الفلسطينية من خلال الفتور النسبي الذي اصاب علاقة إيران بالمعسكر الفلسطيني المعارض لأوسلو. أعلن الرئيس خاتمي في كلمته أمام مؤتمر القمة الإسلامية المنقعد بطهران في ديسمبر 1997 بأن إيران تقبل حل الدولتين لتسوية.
بصورة ما؛ كان أحد أهداف القيادة الإيرانية في هذه المدة الحيلولة دون استغلال القيادة العراقية للمجازر الإسرائيلية كورقة رابحة ضد طهران ومنافسي بغداد الإقليميين في الشرق الأوسط. أي شكل النظام العراقي آنذاك حافزاً بالنسبة لطهران لدعم القضية الفلسطينية إعلامياً, فعلى الأرض توجه السياسة الواقعية مسار السیاسات الخارجیة لدول ما بعد الثورات بعد استنفاذ وقود الغايات الثورية تدريجياً.
لكن بسقوط “الآخر” الأيديولوجي الذي كانت تتنافس معه طهران على “تمثيل” القضية الفلسطينية (وهو العراق بشكل رئيسي), تتراجع الدوافع/العوامل التي تدفع إلى التركيز علي القضية بصورة نسبية حتى تستطيع إيجاد أو التوصل لـ “آخر/آخرين” إقليميين جدد بصورة أو بأخرى.
مع ذلك؛ بقيت ديناميكيات القوة داخل النظام حاكمة لمسار السياسية الخارجية وإن أمسك المرشد بمعظم خيوط اللُعبة. إلا أن التنافس بين القوى المحافظة، الراديكالية، البرجماتية (ولاحقاً الإصلاحية)؛ شكلت بصورة كبيرة مسار هذه السياسة.
على الرغم من دورها المباشر أو الضمني في دعم الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان الذي يتم الحديث عنه من حين لآخر؛ اكتسبت القيادة الإيرانية آنذاك قوة دفع لتعزيز خطابها البلاغى نتيجة الفراغ الجيوسياسي الذي تلا الغزو الأمريكي للبلدين. بفضل ذلك الفراغ, قدمت إيران ذاتها كدولة طليعية تدافع عن قضايا العالم الإسلامي مع عدم وجود دولة بديلة يمكن أن تنافسها على المستوى الخطابي من خلال القوة الناعمة.
من وجهة نظر طهران؛ لم يكن هناك منافسون معتبرون بحجم العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين وحزب البعث الحاكم يمكن أن يتنافسوا معها وتحالفها على قيادة العالم العربي الإسلامي. وتزعم الدعوة لقضاياه آنذاك (وإن بقيت الرياض أبرز مناوئي طهران في المنطقة). بذلك ظلت الجمهورية الإسلامية دائماً في حاجة إلى استمرار وظهور “آخر/آخرين” إقليميين تعيد موضعة وإنتاج موقعها الإقليمي من خلاله/خلالهم في عملية مستمرة تزامناً مع حاجة الجمهورية إلى قضايا إسلامية كبرى تتجاوز بها الثنائية المذهبية.
تراجع حدة الخطاب
على الرغم من مرونة الخطاب الإيراني بسير المفاوضات النووية بين طهران والغرب على نحو يؤدي إلى التوصل لتسوية نهائية أو شبة نهائية حول ملفها النووي المتنازع عليه، يصبح الحفاظ على نفس مستوى خطابها البلاغي ضد “قوى الاستكبار” حول القضية الفلسطينية أكثر صعوبة من ذي قبل (وإن سيظل باقياً بالطبع)، فهناك الآن ما يجمع طهران والقوى الغربية في المنطقة أكثر من ذي قبل كـ”مكافحة الإرهاب” (والمفارقة هي أن هناك رؤيتين؛ واحدة تدعو للتعاون مع الغرب لمحاربة الإرهاب والأخرى تراه من إنتاج الغرب نفسه).
مع ذلك؛ استثمرت إيران منذ مدة طويلة في تسليح ودعم حركات المقاومة الفلسطينية كجزء من أجندتها لمحاربة “قوى الاستكبار العالمي” منتظرةً أن تقطف ثمار النجاح التكتيكي لحركات المقاومة ضد الدولة. لكن بالنظر للظرف الراهن حيث مفاوضات طهران مع الغرب ودعمها للنظام السوري، يصبح من الصعب جني إيران لثمار دعمها إعلامياً أمام العالم العربي والإسلامي الذي فقدت الكثير من شعبيتها فيه خلال الأعوام الأخيرة التي تلت موجة ثورات الربيع العربي.
ديناميكيات القوة في الداخل
تبقى ديناميكيات القوة في داخل النظام الإيراني التي تمر بعملية مخاض إحدي العوامل التي قد تؤثر على الخطاب الإيراني تجاه قضايا المنطقة لاحقاً. ففي فترتي عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد تضخم دور حراس الثورة الإسلامية اقتصادياً ومؤسسياً مما عزز من موقعهم في شبكة علاقات السلطة داخل النظام الإيراني أكثر من الفترات السابقة. ومن ثم حدث تضارب بين المصالح الرأسمالية للحراس الثورة والنُخبة التي يقودها الرئيس حسن روحاني وهاشمي رفسنجاني (ربما سيكون الصدام مجرد عامل وقت) فإن مثل هذا التعارض قد ينعكس على طبيعة الخطاب الإيراني الموجه تجاه قضايا المنطقة والعالم.
في ثمانينيات القرن الماضي؛ آلت جهود الرئيس هاشمي رفسنجاني للتوافق مع الغرب إلى الفشل بسبب ممارسات العناصر المناوئة له من داخل النظام التي استهدفت تخريب أي محاولة من قبله للتوصل إلى أي تسوية مع القوي الغربية. إذاً قد تحدث سيناريوهات مشابهة مع الرئيس روحاني لاحقاً إذا لم يستمر في الحصول على التأمين/الحماية اللازمة من المرشد (وهو الأمر المستبعد على المدى القصير والمتوسط). في هذا السياق؛ أعطى المرشد أوامره في وقت سابق إلى قادة حراس الثورة بعدم التدخل في السياسية بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية مع شروع الرئيس الجديد في استئناف المفاوضات مع الغرب، في إشارة لدعمه للرئيس الجديد آنذاك.
لكن تبقى القضية الفلسطينية موضوعاً للتنافس الخطابي بين مختلف النخب الإيرانية كإحدي أوراق الضغط التي قد تستخدمها أطراف ضد بعضها.
عودة لحل الدولتين
في زيارته إلى مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2013، عندما سئل الرئيس روحاني إذا كانت إيران تدعم حل الدولتين في فلسطين؛ أجاب روحاني إجابة دبلوماسية كان قد أجابها الرئيس خاتمي إبان توليه للرئاسة وهي: “الحل الذي سيقبله أهل فلسطين سنقبله نحن”[6]. تختلف هذه الإجابة جذرياً عن تلك التي كان يعلن عنها سلفه الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد دوماً والتي كان محورها “محو إسرائيل من الخارطة”.
نظرياً؛ لا يبدو أن إجابة روحاني السابقة مع استراتيجية إيران الجديدة المعروفة بـ”البطولة المرنة” التي أعلن عنها المرشد علي خامنئي لتقود سياسية إيران الخارجية. وهي سياسية تسمح للإدارة الإيرانية الجديدة بانتهاج نهج برجماتي في مناوراتها مع الغرب مع الحفاظ على راديكالية الخطاب.
يبدو أن الاستراتيجية الجديدة التي أعلن عنها المرشد كانت تستهدف (بجانب أهداف أخرى) التوفيق بين خطاب النُخبة البرجماتية/الإصلاحية وخطاب قيادة حراس الثورة الإيرانية الذي ينحو نحواً برجماتياً. بصورة من الصور كانت الاستراتيجية حتمية لشرعنة خطاب إيراني متسق بقدر الإمكان من خلال السماح بأكبر قدر من المرونة.
لكن إلى أي مدى تكون هذه الاستراتيجية قادرة على الحفاظ على خطاب متسق في المرحلة القادمة؟ الأمر المهم والصعب بالنسبة لطهران هو: كيفية تحقيق خطاب متوازن يعزز من مصداقيتها وسمعتها التي تم تقويضها في العالم العربي والإسلامي تزامناً مع التوصل إلى تسوية ناجحة ونهائية مع الغرب. هذه هى معادلة طهران الصعبة.
مع ما لحق مصداقية إيران في المنطقة من تدهور؛ ستظل القضية الفلسطينية ودعم قوى المقاومة الفلسطينية بغزة ورقة طهران الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من شعبيتها التي تم تقويضها في المنطقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]روحانی در جلسه هیات دولت:لایحه فوریتی خروج از رکود تقدیم مجلس می شود/ روز قدس امسال باید از همیشه باشكوهتر باشد, خبرگزاري مهر, 1 – 5 – 1393
http://mehrnews.com/detail/News/2337091
[2]رهبر معظم انقلاب در دیدار دانشجویان:راهکار ازبین رفتن رژیم صهیونیستی رفراندوم است, اطلاعات، پنجشنبه ۲مرداد ۱۳۹۳.
http://www.ettelaat.com/etiran/?p=60134
[3]p.140, Said Amir Arjomand, After Khomeini: Iran Under His Successors, Oxford University Press, 2009.
[4]p.140, Ibid.
[5]p.146, Ibid.
[6] Call With Obama Caps Rouhani’s UN Charm Offensive, Al-Monitor, September 27, 2013.
http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2013/09/rouhani-un-visit-reception-message.html##ixzz38LF4cHoG