من الدولة إلى التجديد (3) عن المجال والمكان والمدن

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

 

مقدمة:

ربما ينبغي أن نعيد طرح سؤال : “من نحن وماذا نريد؟” في كل مرحلة كي لا نغفل أو ننسى، ولاسيما في مسارات التجديد ومشاريعه الكبري. فما الذي كان ينشده مشروع التجديد الذي بدأ قبل الاحتلال واستمر في ظله وشارك في مقاومته، ثم سعى لاستعادة “دولة الخلافة” وإحياء الإسلام كما يذكر أنصاره؟

في النموذج الإسلامي يتداخل الاجتماعي مع السياسي تداخلاً واضحاً حيث يتشابكان في النظرية والممارسة، وقد أقام الإسلام علاقة وثيقة بين قواعد تشريعه السياسي وبين فطرة التكوين الإنساني والاجتماعي، وضمن من خلال التشريع تأهيل الوحدات المختلفة للقيام بوظائف سياسية إلى جانب وظيفتها الاجتماعية والإنسانية (بدرجة دنيا في الأحوال العادية وبدرجة قصوى في النوازل)، وكان تأسسها على الفطرة و”السنن” الاجتماعية ضمانة لاستمرار وجودها في المجتمع، كما أن الأحكام الشرعية الفقهية والأخلاقية التي تضبط بنيتها وقيمها قد أهلتها لتحمل هذه المسؤولية والأدوار من ناحية أخرى، لذا فإن فلسفة الوحدات المختلفة ترتبط بطبيعتها السياسية ولا تتحقق في كمالها إلا بتأكيد مكانها على خريطة أعقد من الواجبات والاستحقاقات. وإذا كان البعض يرى أن النظام الإسلامي له خصائص مميزة تكمن في مجموع مكوناته، فإننا نذهب إلى أن هذه الخصائص تكمن بكاملها في كل بناء من أبنية النظام الإسلامي ووحدة من وحداته حتى وإن كان يؤدي وظيفة محددة بعينها في تكامل مع الأبنية الأخرى، وهو ما يضمن عند استبداد الدولة أو تفريطها في مسؤوليتها تحول هذه الخصائص الكامنة إلى خصائص ظاهرة يمارس بها هذا البناء أو تلكالوظائف التي فرطت فيها الدولة، وهو ما يجب على الباحث السياسي فهمه وبناء تصوره عن وظيفة وإمكانات كل الوحدات سياسياً على أساسه استغلالاً في كل مرحلة تاريخيه لأقصى طاقة وقدرة لكل وحدة بما يتوافق وطبيعة النظام وحاجات الجماعة، على أن يكون معلوما وواضحا أن هذا وضع استثنائي يلزم إنهاؤه بعودة كل جزء في النسق لموازين الأدوار والوظائف.

فما نسميه ”الدوران المؤسسي” يخلق حالة من الحياة والتجديد (الديناميكية) في المجتمع المسلم ويسبغ عليه صفة التفاعل الدائم مع الأحوال والأحداث والمستجدات في العلاقة بين الثابت والمتغير والمطلق والنسبي. لكن فهم ذلك التقاطع بين الدوائر والتمايز بينها لم ينفك عن مركزية المكان والمساحات والتي تقترن بها حدود المجالات.

ولا شك أن ”سننية” العقل الإسلامي السياسي المعاصرة(1)تعاني قصوراً بقدر ما تعاني المساحات الاجتهادية تقليلا من شأن تفعيل “المقاصد” وليس فقط الحديث عنها كموضوع-ولاسيما في مساحات المكان والمدن والعمران-.ونعني بأصولية المنهج في الدراسة السياسية قيام هذا المنهج على ربط العقل بالوحي، قرآنا وسنة، أي قيامه على استيعاب الأصول التي تقوم عليها الشريعة بمعناها الأخلاقي والحُججي والحياتي ثم التشريعي في المعاملات والأحكام وتوليد أطروحات منبثقة عن ذلك المنهج تعيد تشكيل الواقع وتتفاعل مع مستجداته وتكون في موقع الفعل المؤسس وليس رد الفعل، ولاسيما عند الحركات الإصلاحية التي تنتمي إلي روافد هذا المنهج.

ما قبل الخلافة: عن المجال والمكان والمدن (2)

كان مما شغل الحركة الإسلامية طويلا تصور الحكم والدولة الإسلامية تصورا عاما كان فيه نقد للدولة القومية التي جاء بها الاستعمار ففرض حدودها المكانية ووسع صلاحياتها السيادية والسلطوية. لكن كتابات الدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية لا تدلنا على وضوح تصور المكان والمجال والحيز والتحولات اليومية التي أصابت نسيج المجتمع جراء تغير الصيغ العمرانية وأبرزها المدينة الحديثة وخرائطها كمجال اقتصادي وإنتاجي وتجاري يتأسس على تفتيت البنية المجتمعية والدينية لما قبل الحداثة بل وبنية العدالة ومنظومات الأعراف والقيم الجماعية، فضلا عن غياب حسن الفهم لما تنتجه المدن كآلة حداثية لتمايزات طبقية وثقافية عميقة، وتقديم رؤية معاصرة للتعامل معها ليس فقط تحت ملف العدالة الاجتماعية والتعامل مع مساحات الرأسمالية المتوحشة بل أيضاً لفهم تأثيرها على المنظومة الأخلاقية والقيمية التي يتأسس عليها بنيان الإصلاح والتحولات التي شهدها النسيج الاجتماعي وأثرت على صيغ التدين التي نشأت ودرجة التجريف في الثقافة المجتمعية وفي العُرف والتضامن الاجتماعي ليس لأسباب تتعلق بميل الناس للصلاح والفساد بل لوجود بيئة مُعينة على الصلاح أو منتجة للفساد – مكانيا ومساحيا.

والسؤال هو: كيف يمكن بناء تصور لأية دولة دون فهم لطبيعة المدن التي يعيش فيها ما يقرب من 60% من السكان حسب بعض التقديرات وتتغير خرائطها المجتمعية والاقتصادية باستمرار؟ وما هي صيغ التمدن التي تقدمها الحركة الإسلامية للناس خلاف دعوة وعظية عن أهمية التزامهم بإسلام لا يعرفونه سوى بشكل طقوسي فغاب الفقه في الدين عن مناطق كثيرة مهمشة اقتصاديا أو مستغرِبة ثقافيا؟

وهل كانت حقوق السكن والحق في الأرض والدفاع عن ملكية الأمة للمساحات وتنظيم وتقييد وضع سلطات الدولة ليدها على ما تشاء بدون حسيب وحفظ حق الناس في المشترك من موارد كالمياه والطاقة مما تضعه الحركة على الأولويات؟ وهل كان لديها تصور لتخطيط عمراني يُحجِّم توظيفالسياسات الاقتصادية والتشريعات لصالح رأس المال لا للمصلحة العامة؟ وأنا لا أقصد هنا فقط استجواباً موجهاً لوزير هنا أو بياناًيلقى في برلمان هناك، بل عملاً حقوقياً نضالياً مستمراً يجعل المكان والحيز والمساحات في قلب خرائط النهضة ورعاية مصالح الشعب، ويقوم بالتعبئة حول ذلك ويجعل لمف الحق في السكن والأرض على قائمة مطالبات “تطبيق الشريعة”..والاجتهاد.

والمطالع لتراثنا الفكري يجد عناية شديدة بتحديد المجال والحيز والسيادة الخاصة للجماعات المعينة على مساحاتها اجتماعيا ومحليا وعلاقة ذلك بالسيادة العامة للسلطة على كل المساحات بشكل اعتباري، فهناك فقه كامل للعمارة الإسلامية والعمران، ولعل أقدم كتاب في هذا المجال هو مؤلف ابن عبد الحكم (توفي سنة 214 هـ) المعنون بـ “كتاب البنيان”، وكتاب ابن الرامي: “الإعلان بأحكام البنيان”، فضلا عن تراث فقهي واسع يتناول جملة المسائل الخاصة بالعمران والمدينة ضمن كتب الفتاوى والنوازل.

وهناك حُجج الوقف حيث وثّقت الوثائق كلّ ما يتعلّق بالأملاك وكيفية التصرف فيها وسائر الأحكام المتعلقة فيها،وهناك كتب تاريخ المدن وسيرتهاالتاريخية والجغرافية(3).

واعتنى الفقه بصياغة بعض المبادئ الأساسية والقواعد في التشكيل المعماري للمدينة الإسلامية وفي مقدمتها: قاعدة رفع الضرر، واستقبال القبلة،وحقوق الجوار (بما فيها الستر والشُفعة) والإحسان (التنسيق الجمالي)، فضلا عن قواعد الاشتراك في المساحات والمنافع العامة وصونها.

وفي أبواب فقه المعاملات نجد تأصيلا وتفصيلا لأحكام المعاملات المالية مثل إحياء الموات والخراج وحق الاختصاص؛ وحق الارتفاق والشفعة وحق التعلي وحق الجوار وحق المسيل وحق المرور وضرر الهواء وظاهر الطريق وباطنه وترتيب الفناء؛ والإجارة. وكذلك كتب الأدب والرحالة التي تذكر مسارات الحياة الاجتماعية وتفاعلاتها المخلتفة؛ وهناك كتب التاريخ والخطط التي تعطينا صورة عن كيفية إدارة الحياة في المدن الإسلامية.

وفي الفتاوى في تراثنا الفقهي تفصيل وشرح ورؤى عميقة لجوانب هذه القضايا المختلفة. ثم هناك كتب السياسة الشرعية في حديثها عن ترتيب السلطات وإدارة الأسواق والأوقاف، ورسم المساحات والمجالات وتحديد علاقات قوة والاختصاصات،  ففي تفاصيل الأمكنة وتقسيمات المساحة وتوزيعها تكمن فلسفة للوجود والقيم… ورمزية لمعاني الإنسانية والتساكن والائتناس والجمال في ثقافة ما.

وقد شهدت المائة عام الأخيرة تحولات غير مسبوقة في صيغ التمدن الإسلامي نتيجة الاجتياح الاستعماري والاقتصاد الاستعمالي، وهي آثار امتدت ليومنا هذا وما زالت تنتج تداعياتها.فالمدن التي نعيش فيها ترزح تحت وطأة جملة من التناقضات والارتباكات.

كل هذا التراث لم يجد له استمرارا وتراكما في كتابات الفقه الحديثة ولا في رؤى رواد الحركات الاسلامية الذين كتبوا عن الدولة وعن الحكومة الإسلامية كتابة منفكة بالكلية عن خرائط المدن الإسلامية في زمن الاحتلال وعصر العولمة. واكتفوا بالكلام في الحكومة الإسلامية كمعنى أو في التقنين كضابطدون إدراك للسياقات والمساحات. فلم يحدث وصل بينه وبين نظريات علم اجتماع المدن ولا كان على أجندة التغيير التطوير الحضاري وتخطيط مختلف للمدن والعواصم ولطبيعة علاقتها بالريف والبادية، وحق السًكنى والعيش فيها.

روابط المواطنة بين الأحياء المسورة والعشوائيات: (4)

المكان ليس فقط المساحة بل هناك المسافة التي تخلق روابطأو تقضي عليها، وهناك المكان المرتبط بمجال الفعل السياسي تواجداً وإقصاءً، وتتنوع المجتمعات في ظل الدولة القومية الحديثة بين مجتمعات تراحمية تقوم على لُحمة القرابة والعصب والقبيلة وتَعاضد الجماعة، أو مجتمعات تزعم أنها تعاقدية تتأسس علىخيارات النفعية والمصالح ووضعية القانون وحرية الفرد. ولكل من هذه المجتمعات التي تتجاور أحيانا وتتقاطع أحيانا فلسفته في روابط الكتلة الاجتماعية ومساحات الفراغ وتوزيع السلطة والمكانة. والخصوصية مساحات معنوية وتقسيمات مكانية، والرابط بين العمارة والعمران هو الصلة بين المبنى والمعنى. ومنظومة الآداب ­­­الإسلامية وأخلاق حماية الخصوصية والحدود بين الخاص والعام والفردي والجماعي تتناغم في إيقاع فريد في التشريع الإسلامي..لكن تحولات المدن أثر سلبا على منسوب التراحم وبالتالي الكثير من أبعاد تطبيق الشريعة في الأخلاق والمعاملات والفتوى والقضاء.

والسياسة في هذا السياق لها بعد مكاني غالب، تحرك بعض الأنظمة الجموع في مساحات المدن لكن يظل “المجال العام” بالمعنى المدني والسياسي فارغا، والعصيان المدني قد يسعىلملء فراغات الفعل وفراغات المكان بنزول للشارع وتكتل حاشد أو رمزي في فراغ واسع لإرسال رسالة احتجاج تملأ العين والبصر لكن كيف يمكن إدارته بما يضمن ألا تجور وتتغول عليه سلطة ولا يؤثر هو بالمقابل على أمن الناس ودوران حركة العمران ومصالح الخلق؟ تلك الموازين الدقيقة والسياسات العامة وتوزيع الموارد وتخصيص الملكية ونزعها وكَف يد دوائر القوة والثروة عن شراء ما تشاء أو مصادرته أو اجتياحه تحت أي مبرر وصيغ التقاضي وتحقيق العدل في حال التنازع-كلها ملفات لاجتهاد غائب “فقهاً”وحاضر فقط – وبقوة – “صراعاً”.

وإذا كان هناك مشروع إسلامي للعمران نقدمه للناس وهو غاية تأسيس نظام حكم إسلامي منذ عقود فالسؤال ماهي غايات الاجتماع الإنساني كما نراها في تصورنا الإسلامي لنقدمها للعالمين كمنطلقات للإصلاح وللتعارف والمجادلة عن النفع الذي يقدمه هذا التصورليس فقط  لشعوب الأمة بل للعالمين؟

لقد نظمت كاتبة هذه السطور عام 2010 ورشتي عمل في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، الأولى عن مخطط القاهرة 2050 مقارنة بتجارب تطوير العاصمة في بلدان مختلفة.. والثانية عن تطوير وسط القاهرة، وجمعت بين أساتذة تخطيط عمراني وعمارة وعلوم اجتماعية وإدارة وتخطيط وصناع قرار حكومي، واتضح بجلاء أنه لا أحد يتابع تلك الملفات في الحركة الإسلامية ولا يقدم نقدا ولا نقضا للجاري من تخطيط لتغيير معالم المدينة بمنطق رأس المال ورجال الأعمال المهيمن على صانع القرار، حيث البشر مجرد كتل بشرية يمكن نقلها من مكان لآخر ولا يحق لهم سوى المطالبة بتعويض فحسب.

إن لدينا في تاريخنا نماذج مختلفة للمدن والحواضر وعبر التاريخ الإنساني كذلك كان لكل منها منطق وتأسس على كل منها صيغة للاجتماع بعضها ظالم لنفسه ولغيره، وبعضها سابق بالخيرات.ولدينا تراث يملك التقدم على كثير من جهد الفلاسفة في حضارات أخرى، فهل كان موضع نظر وبحث ودراسة ممكن تصدروا ليسودوا.. قبل أن يتفقهوا؟

وهل يمكننا اصطفاء مفهوم للتمدن يغدو الأكثر إنسانية ويصير معيارا نموذجياً بحيث يُقاس عليه مستويات التمدن: مثاليةً.. ثم نقصاناً.. ثم هبوطا “للتوحش”-كما وصف ابن خلدون، واعتبار ذلك معيار نجاح الإصلاح السياسي وليس الانتخابات كما شاع؟ وكبف يمكن إعلاء معيار الإصلاح الاجتماعي،وليس مظهرية الشعائر دون إقامة ميزان الدين: تصديقا وتكذيبا، وتفعيل الآيات التي وردت في القرآن لتؤكد اقتران إقامة الدين برعاية حقوق المستضعفين وأشد الفئات تهميشا: في المجالاتوفي الأمكنة والمساحات؟

لقد انشغل الفكر الديني وكذلك الخطاب الإسلامي بالقضايا الفقهية التفصيلية أوالأبعاد الأخلاقية الدعوية، لكن أهمل السياقات المكانية لتنزيل تلك القواعد والآداب فلم تنل الحظ الكافي من التأصيل لفهم التحول الذي أصابها في ظل اتساع السوق الرأسمالي وإعادة تشكيله للمساحة. فالاقتصاد الرأسمالي الصناعي ثم المعلوماتي العالمي قام بتغيير أمكنة الاجتماع الإنساني ومنطقها، وأبرز مظاهر ذلك تحولات المدن كمراكز اقتصادية ونقاط محورية في علاقات العولمة والهيمنة، ومن أبجديات أصول الفقه الشرعي والحضاري أن نفهم سياقاتنا المكانية قبل أن نرسم ملامح نهضتنا الإسلامية.

فما هو سبيل تنزيل الشرع والآداب في فضاء المدن التي تخلق مساحات ومسافات وتفاعلات اجتماعية وأنماطاً سلوكية لا تتعلق بإرادة الفرد بل بهيكل وبنيان المدن وتخطيطها وعمارتها؟

والحق أن كل هذه النقاط المبثوثة تشكل في كليتها رؤية متماسكة متكاملة لعلاقة الإنسان بالمكان وبالشريعة التي تتجاوز هنا التعريف الحديث القانوني الضيق لها لتشمل الأعراف والآداب ودورة المجتمع المدني وتفاعلاته مع محيطه المعماري وصلته بالأرض وسكانها.

ولقد شكل المحيط العمراني رؤية الفقيه والأدب والمؤرخ للسلطة وللحيز والمكان؛ وانعكست عليه رؤى الإنسان السائدة وعقيدة التوحيد وما ترتبه من مفهوم للحقوق والجماعة والنفع والاستخلاف؛ ومع تحولات العمارة وتشكل المدن الحديثة لخدمة رأسمالية كان لزاما التساؤل عن صيغ وتحديات تنزيل الشريعة علي عمران متحول أقل ما يوصف به أنه معمار “كاذب” ظاهره لا يعكس قيم سكانه الباطنة بل ويتحداها؛ وقد يوصف في وصف أشد قسوة أنه معمار ضد الشريعة؛ يشلها ويقننها ويقتلها بمعاداته لفكرة الأمة أو الجماعة العضوية؛ وفكرة العرف ومساحات السلطة الشعبية ودوائر التفاعل الديني وطقوس الثقافة المحلية التضامنية؛ معمار يكسر بوابات الحارات كما فعل الفرنسيون عند احتلال القاهرة؛ ويتجاهل خصوصية الأمكنة؛ وينمط فكرة “العلو في البنيان” بتثمينه للأرض بما هو خارج عن خراجها ومرتبط بحسابات رأسمالية وطبقية؛ ويكرس المركزية ويفتح كراهية وعُنوة دوائر الخصوصية بل والشروط الدنيا للعيش الإنساني.

المدينة..وأجسادنا: (5)

ومن المهم الإشارة إلى أن قضايا المكان لا تنفك عن قضايا الوجود والجسد والحقوق الإنسانية؛ وإعادة صياغة اللغة التي يتم بها التوجه للناس لتكون لغة دالة لها اقتران بحياتهم ومشكلاتهم الاجتماعية وليست لغة اصطلاحية وحسب (مثل الانتقال من فقه فتنة المرأة وإدانة التحرش والاغتصاب إلي بيان فلسفة الجسد في الإسلام وعلاقة الحرمات بالمساحات وبالأخلاق وبالقيم وبإدارة الذات في التصور الإسلامي وحفظ خصوصيتها وكرامتها رجالاً ونساء). ولعل مفهوم المواطنة بما طرأ عليه من اتساع وتطوير في الفكر الغربي بمدارسه الأيديولوجية المتنوعة يمثل مفهوما صالحا للتطوير-والتطويع- من أجل حفظ حقوق الناس في ظل تراجع دور الدولة من مساحات الضمان الاجتماعي وضعف الشبكات الاجتماعية التقليدية الداعمة للافراد؛ أي تحويله لمفهوم دِرع لحماية الحقوق وليس مفهوم مظلة بشكل فضفاض، بما يتجاوز الحديث عما “كفله الإسلام” من حقوق للفئات الاجتماعية المختلفة إلىتفصيل وتفعيل كيفية حماية هذه الحقوق بإصلاح السياسات العامة والموازنات الحكومية؛ وسبل حماية الأفراد والجماعة في توازن متناغم. وهو اجتهاد لا بد أن يشتبك مع تحولات السوق بمعناه الشامل وسياسات التكيف الهيكلي والخصخصة للأرض والموارد العامة والآثار بعيدة المدي لذلك علي توازن القوة والمكانة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية.

وهي قضايا تحتاج اجتهادا جماعيا ولن يفلح العقل والخطاب الديني الحالي في الاشتباك معها دون تطوير لحالة العقل الفقهي كما سبق البيان؛ وإلا بقي يخاطب واقعاً متخيلاً ويتحدث عن حقوق تضيعها الهياكل والسياسات والتشريعات وتنتهكها الإدارة المؤسسية وتركيبة التفاعلات الاجتماعية في تفاصيل الإدارة العامة والبيروقراطية والسلطوية بشكل يومي ومستمر.

قضايا السياسة وصلتها بالعمران:

للصمت والتعميم تجاه قضايا التمثيل والحضور السياسي وتداول السلطة والشفافية ومكافحة الفسادأثر علي أحوال الناس اليومية فادح الثمن، وهذا من أصول البلاء بحيث يصبح التعامل مع القضايا الفرعية للتفكير والفقه والفتوىدون تغيير أسباب المشكلات.. دورانا في حلقة مفرغة.

والمذهل أن متابعة الجدل الدائر بين التيارات الفكرية نجده رغم مظهره السياسي الصاخب متجاهلا لأبرز موضوعات القوة والتسلط السياسي في مجتمعات عديدة أخرى؛ من ذلك غياب النقاش حول القيم العامة التي يبنى عليها العقد الاجتماعي في مجتمع ما -تحديدا مدينة ما-وتحولاتها ومستقبل التعامل معها؛ أو كيفية تحديد مساحات الخصوصية ودوائر الاجتماعي العام؛ أو الفلسفة التي يقوم عليها النظام التعليمي؛ أو السياسة الإعلامية والإعلانية وعلاقتها بالمجال العام وبالثقافة وبالهندسة الاجتماعية التي تفرزها آليات السوق والتسويق وتلعب دورا أساسيا في تشكيل الوعي بعد أن سقط مفهوم الإعلام الجماهيري وأصبح المجتمع استهلاكيا يكرس الفردية والشراهة الشرائية وتطارد لافتات وشاشات الدعاية فيه المواطنين علي الأرصفة وفي المحلات التجارية بل وداخل أروقة السوبر ماركت بشكل غير إنساني. في هذه البيئة الاجتماعية ومن ورائها البيئة الطبيعية التي تعاني من ذلك التحول الرأسمالي المشوه يموت الناس فيها علي الأسفلت في حوادث الطرق بمعدلات هي الأعلي في العالم؛ فيصبح الخطاب الديني في مواجهتها قدريا يؤمن بأن لحظة الموت لا فكاك منها بدلا من أن يكون أفق هذا الخطاب هو الدفاع عن الحقوق المساحية للأفراد والتأكيد علىأن حق الأمن والحياة يبدأ بضمان الحد الأدنى من نوعية الحياة الإنسانية وليس محض العيش على هامشها المتآكل.

إن التساؤل هو: إذا كان مجال الحداثة العلمانية الأول هو المدن الصناعية، فأين الجدل حول المدن الإسلامية اليوم في ثوبها الكوزموبوليتاني؟ وكيف يمكن أنسنتها –ناهيك عن أسلمتها- كمجال حركة لاستعادة الديني الحضري والحضاري في مساحات المدن المعادية للتجمع الإنساني والتراحم والتكافل. فهذه المدن التي يعيش فيها المسلمون اليوم تزدحم بمساحات ومسافات ومواقيت للعمل وتحديد لوقت الفراغ يتوازىمع الإنتاج المادي لا مع فلسفة العبادة ولا ينتظم حول الصلاة كخيط ناظم للكيانات الإيمانية الإسلامية (والكتابية) التي يمكنها وحدها أن تضبط وتحفظ المحتوي الإنساني لنسيج مجتمع المواطنة في المساحات الحديثة.

كيف يمكن تصور المواطنة- أصلا وفرعا -دون إعادة تأسيس فقه لحركة الكتل البشرية وقيمها الاجتماعية وتواصلها العبر-مكاني من خلال الهجرة للعمل أو الهجرة القسرية أو حتي السياحة الطوعية بما يرفع التواصل الثقافي والإنساني من خلال التشريع والاستقرار العمراني-السكني ليكون إنسانياً في مدنٍ صارت بلا هوية؛ فهل يمكن أسلمة مدينة مثل دبي مثلاً –أبدًا؟ وهل يمكن الاحتفاظ  بالطبيعة الإيمانية لمكة والمدينة في ظل توحش السوق والإعلان والنزعة الاستهلاكية المتجاوزة بل والمعادية لفلسفة “ليشهدوا منافع لهم” التي ذكرها القرآن؟

كيف يمكن إعادة صياغة الأبنية الاقتصادية الرأسمالية العابرة للقوميات كي تكون هياكلها الإدارية وتنظيم مواعيد العمل فيها وشروطه ومناخه مع الجماعية وضد الفردية؛ محترما لرأس المال الاجتماعي والإنساني والأخلاقي؛ وأن يكون هذا ركنا أساسيا في تحرير المرأة بالإسلام من عبودية وأبوية الرأسمالية ومشاركتها في المجال العام والسياسي والمدني باتجاه نهضة إسلامية هي شريك فيها بلا نزاع؟

كيف يمكن بناء تحالفات إنسانية عابر للعالم مع التوجهات الإنسانية ضد هيمنة اقتصاد السوق ما وراء رفض الفائدة البنكية وباتجاه رؤية إسلامية لعلاقة النظام الاقتصادي الإسلامي بالبيئة وحماية حقوق العمال واحترام التراث المعماري والنقابية الدولي ومكافحة حرمان الأطفال من طفولتهم بالعمل المبكر ومن أمهاتهم بعمل الأمهات الذي يمليه واقع الفقر المتنامي، أو بالتجار في البشر؟

كيف يمكن تفعيل شبكات الرحمة الإنسانية الإسلامية لمقاومة الكوارث وحل النزاعات المسلحة؛ ومن كان أولي بأفكار أطباء بلا حدود والرقابة الإنسانية العالمية علي أوضاع حقوق الإنسان؛ نحن أم غيرنا؛ أم كنا منشغلين أثناء تأسيس تلك الجهود بجدل فتنة المرأة وحرمة المصافحة والدفاع عن الإسلام ضد علمانية لا نعرف خرائطها ومساحاتها ومدنها؟

كيف يمكن تحقيق تناصر إسلامي مع الأقليات دون ممارسة وصاية علىأوضاعها التي تستلزم اجتهادا فقهيا وسياسيا ينبع من داخلها دورنا في دعمه والتواصل معه وتفعيله وحشد النصرة العالمية له ولإنسانيته بدلا من الانخراط في الشجب أو إظهار النصرة اللفظية دون معرفة بأوضاعهم وظروفهم بل وأخطائهم التاريخية المدنية غير الحضارية؟

كيف يمكن توليد رؤى للجمال في زمن القبح؛ وثقافة للسلام في مناطق النزاع تعين الناس على ألا يدخلوا في دائرة العنف المتجاوز لـ “حدود” الجهاد؛ ويرد بعضنا بعضا لتلك المعاني والقيم والحدود بدلا من المزايدة بدماء الأبرياء منا ومن غيرنا بما لا يحقق مصلحة منشودة أو منفعة مرجوة؛ ورغم ذلك لا يتم تعديل التكتيك فنوشك أن نخسر “أنفسنا” المسلمة قبل أن نخسر المعارك بارتباك العقل السياسي الواضح في مواجهة النوازل؟

ثم نقف أمام قضية أخرى مهمة: ما هو شكل الإدارة التي ننشدها للشؤون الدينية في مجتمع إسلامي؟ هل من المصلحة تأميم الإسلام في فرنسا؟ وهل من المفيد تحرير الأزهر في مصر؟

من “يدافع” عن الدين ضد أي هجوم؟ الناس أم الرقابة على المصنفات الفنية التي تجيز الأفلام السينمائية؛ أم وزارة الثقافة؟ أم يظل المجلس الأعلىللشؤون الإسلامية؟ أم وزارة الأوقاف؟ أم المجتمع المدني ذاته بولاء إسلامي وديني يرى في الهجوم على الدين عدوانا على الفضائل المدنية؟
من الثقافي إلى المحلي:

“توطين” النقاشات هو مدخل فقه المكان والمواطنة.

الفريضة الغائبة اليوم هي فهم علاقتنا بالمكان بين التمدن والتوحش والعسكرة والاجتياح والاستلاب والاحتلال والاستهلاك.

فنحن نسأل ونؤصل ونتّحد بالمكان ونشتبك عبره مع القائم من سياسات واقتصاديات عن مجالات العلمنة ومساحات الدين والحضور المدني للناس واختراق قيمنا الإسلامية وحدود سلطتنا كمواطنين؛ ثم نراهن على الفطرة ونسعى من أجل فضح الظلم وتأسيس أعراف العدل في المجال اليومي قبل أن ننشد التغيير البعيد والدم المسفوح للضحايا الصامتين للرأسمالية؛ يسيل تحت أقدامنا دون أن نراه.

والعلمانية ليست طائر العنقاء؛ يمكننا تنحية اللفظ جانبا والاشتباك مع المضمون؛ طرح الأسئلة وتقديم إجاباتنا نحن والبحث عن حماية الدين من بطش الدولة بفصلها عنه؛ ومن هنا نبدأ؛ بفك الارتباط القانوني بين الرئيس ودار الإفتاء؛ وبين الدولة والتعليم الديني؛ وبين الحكومة ومناهج التعليم المدني؛ وبين وزارة الشؤون وأحوال التكافل وصلة الرحم؛ وبين الحزب الحاكم وإدارة السياسة في المحليات. وفقط حين تتم خلخلة تلك المنظومة بفصل واضح الفلسفة؛ يمكن إعادة تأسيس علاقة لن تكون بالضرورة التماهي؛ هذا إذا أدركنا أن الدين أقوىمن الدولة وأن الدولة أدنى من فلسفة العمران؛ وخاضعة لدورة التاريخ.

الآن نتحدث عن مدن لايمكن وصفها بأنها مدن فاضلة كي يتم إدراجها في الحديث عن صيغ التمدن،حيث إن هذه مدن اختلط فيها الفاضل بغير ذلك، مدن مساحتها هي مساحات أسواق أو بنيت بالأساس في المرحلة الرأسمالية في أوروبا والتي نقلنا عنها تخطيط المدن بشكل يعتمد على تسهيل حركة التجارة بأكثر مما يعتمد على تواصل البشر في داخل المدينة وهنا من الأهمية بمكان أن نفهم نظر فقهاء الإسلام إلى العمران من الناحية المساحية، وتحولاتها المعقدة في مرحلة العولمة، واختصار المسافات وتعدد الجنسيات، وتقاطع الأسواق ناهيك عن “اللامكان” في العالم الافتراضي ومنتجات تكنولوجيا الاتصالاتالقاهرة مثال صارخ على هذ التشظي العمراني وتلك التفاوتات التاريخية والطبقية والثقافية بين المساحات وعلاقتها بالدولة.

ما الذي يمكن أن تقدمه القاهرة لفهمنا للدين والتدين والشريعة والحكم الصالح؟ ما علاقة الريف بالحضر وما علاقة ترييف التنظيمات والأحزاب رؤيتها للثقافة والإدارة كما لاحظ حسام تمام في دراسته عن ترييف الإخوان المسلمين وسلفيتهم في الثلاثة عقود الماضية؟ كيف نفهم ملف السياحة باعتباره ملفا عمرانيا وليس فقط ملفا أخلاقيا؟

ما حلال وحرام الأمكنة والمساحات وما تصورنا عن بناء الذات في مساحات العولمة؟

كيف يتطلع البعض لإقامة دولة “تتمدد” دون أن يكون عنده عقل يقيس المساحات ويفهم التوازنات ويؤسس للعمران في زمن الحروب والنزاعات.

وما مستقبل هذا الدين في أرضه مع كل ما يحدث من إعادة ترسيم لحدود الدول وحدود السلطة استشراءً وتوغلاً تارة وانحسارا وانكسارا تارة أخرى؟

وما لم يطل التجديد مساحات العقل وخرائط التفكير فلن يكون هناك “تمكين”، تمكين متين مَكين يقيم الدين :صدقا وحقا وعدلا، تمكين يكون انطلاقه من التجديد قبل أن يكون من الدولة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)        مداخلة للكاتبة في ندوة “مسارات النهضة والفقه الاستراتيجي” عن التسخير والسنن/سبتمبر2012 
(2)        للمزيد حول علاقة المدينة بتصورات الجسد وعلاقته بالحيز والسياسة، راجع:
Engin Isin,Being Political: Genealogies of Citizenship , Minneapolis:University of Minnesota Press,2002
Richard Sennett, Flesh and Stone:The Body and the City in Western Civilization, New York:W.W. Norton and Company,1996
(3)انظر ما كتبه ابن عساكر عن «تاريخ دمشق»، والخطيب البغدادي عن «تاريخ بغداد»، وغيرها من تواريخ البلدان، وكتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” للمقريزي كمثال للخطط.
(4) محاضرة للكاتبة أبريل 2013 عن المدينة والرأسمالية والمجال العام بالجامعة الأمريكية بالقاهرة 
(5) يراجع للكاتبة سلسلة مقالات تحت عنوان (أجسادنا) تم نشرها بجريدة الدستور المصرية عام 2010.
https://www.facebook.com/notes/heba-raouf-ezzat-%D9%87%D8%A8%D8%A9-%D8%B1%D8%A1%D9%88%D9%81-%D8%B9%D8%B2%D8%AA/%D8%A3%D8%AC%D8%B3%D8%A7%D8%AF%D9%86%D8%A7%D9%88%D8%A3%D9%88%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%86%D8%A7/177015349019642?comment_id=2119378
هبة رؤوف
هبة رؤوف
جامعة القاهرة