الدولة العربية وسايكس بيكو وإرهاصات الواقع

تفصلنا سنتان فقط عن ذكرى مرور مائة عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر، والتي أنهت نحو أربعة قرون من حكم الدولة العثمانية، وكان أبرز تداعياتها تقسيم تركتها في العالم العربي بين الأطراف الأوروبية التي ربحت الحرب؛ وفق ما صار يعرف باتفاقية سايكس بيكو التي أنشأت جغرافية عربية تضمنت مجموعة من الدول لم يبلغ أي واحدة منها حتى الآن عمر المائة عام. بيد أن هذه الجغرافية العربية حملت في طياتها – منذ ذلك – الحين أسباب نزاعات حدودية وعرقية ودينية ومذهبية وقبلية؛ يبدو بديهيا انفجارها في المستقبل.

وقد جاء إعلان إقليم كردستان العراق عن عزمه إجراء استفتاء للانفصال عن العراق لاحقا على مشاريع أخرى تعالت أصواتها وسط ركام المعارك في سوريا. وفيما يغدو العالم العربي مسرحا لتطاحن القوى الإقليمية؛ إذ ترتفع حدة الحرب الأهلية في سوريا، مصحوبةً بالتداعيات المستمرة في العراق وحالة سياسية تستعر نارها في لبنان، يثار تساؤل حول انهيارالحدود المصطنعة التي رسمتها بريطانيا وفرنسا حول المشرق العربي. فهل توشك الدول التي أنشأها الاستعمار الأوروبي في عشرينيات القرن الماضي على الانهيار؟ وما شكل حدود الشرق الأوسط الجديدة؟

سايكس بيكو القديمة والجديدة المزمعة!

اتفاقية “سايكس بيكو” هي اتفاقية توزيع العالم العربي ضمن أملاك الخلافة العثمانية، تمت بين بريطانيا وفرنسا، وقد جرى التوصل إلى هذه الاتفاقية بعد محادثات بين سياسي إنجليزي هو السير “مارك سايكس” (وكان عضوا في مجلس العموم، ومقربا من “ونستون تشرشل” عضو وزارة الحرب البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى) وأمامه على المائدة السفير “فرانسوا بيكو” (وهو دبلوماسي فرنسي اهتم بالمشرق العربي، واعتبر أن لفرنسا حقا في الشام، لا يصح أن ينازعها عليه أحد).

وكان هدف المحادثات ترتيب توزيع الإرث، وانفراد الحليفين الكبيرين بالإرث العثماني في العالم العربي قبل نهاية الحرب، وفي غيبة من كل الأطراف الدوليين – خصوصا الكبار – وبينهم الولايات المتحدة الأمريكية؛ وبعد اتصالات ومحادثات واجتماعات بين الرجلين في لندن مرات، وفي باريس مرات أخرى؛ توصل الاثنان إلى خريطة توزيع العالم العربي نصفين؛ نصفًا يؤول إلى بريطانيا، ونصفًا يؤول إلى فرنسا، وقد استقرا في النهاية على خط تقسيم الخريطة بين “عكا” على البحر الأبيض، وبين “كركوك” شمال الموصل وشمال الخليج، ليكون أساس توزيع الإرث بعد هزيمة دولة الخلافة وحلفائها.

وبمقتضى الخريطة؛ كانت فلسطين والخليج والعراق الجنوبي والأوسط من نصيب بريطانيا، إلى جانب مصر والسودان من قبل، وبمقتضي الاتفاقية أيضا كان إقليم الشام: سوريا لبنان لفرنسا، إلى جانب المغرب العربي: تونس والمغرب والجزائر من قبل.

ولاشك أن عودة الحديث عن اتفاقية سايكس بيكو، واحتمال انهيارالتقسيم الجغرافي الذي تركت العالم العربي عليه، وبزوغ نجم آخر؛ تحتاج إلى الانتباه لمحددات ثلاثة أساسية :

أولا : أن إعادة تقسيم دول العالم العربي وتبدل ترسيم الحدود يبدو أمرا مستحيلا، غير أن الوارد – وفق الشواهد – أن هذه الحدود ستؤدي إلى نشوء “شبه الدول”، المشار إليها دولياً وفقاً للقانون المعني كصاحبة سيادة، رغم أنه لا يمكن تنفيذ الشروط العملية الحقيقية التي تتطلبها مثل هذه السيادة، عبر السيطرة على الأراضي والحدود.

ثانيا : السلطة الحقيقة في المشرق العربي ستصبح متاحة أمام الجميع مع احتدام الصراعات القائمة في سوريا والعراق، وتحولهما إلى مسرح لتطاحن القوى الإقليمية، وتبادلها الأدوار الرئيسة والثانوية في إدارة الصراع – خاصة إيران والولايات المتحدة – والذي يعنيه أن تصبح السلطة متاحة أمام الجميع، وهو بالضرورة تصدع كبير؛ إن لم يكن انهيارا في جدار النظام الإقليمي العربي الذي ظل لعقود مستوعبا القوميات والأعراق والأديان المختلفة؛ إما بسبب ثبات أنظمته الاستبدادية، أو نتيجة انسداد الأفق السياسي الذي لايترك سبيلا لمشروع سياسي سوى ما يدعم بقاءه.

ثالثا : أن سايكس بيكو الجديدة المزمعة التي تلقي بظلالها على خريطة العالم العربي الذي يعج بفوضى النزاعات التي عادة ما تترك الأرض بوجه جديد؛ تبدو دون خط فاصل، وإنما مواقع متناثرة، وفيما كان التقسيم في المرة الأولى تقسيما جغرافيا؛ فإنه يبدو هذه المرة تقسيما للموارد والمواقع.

فصم عُرى سوريا وتفكيك العراق

ومع وضع المحددات الثلاثة التي أتينا على ذكرها في الاعتبار؛ فإن ما يُعجل في الأساس بنشوء شبه الدول الجديدة؛ هو احتدام الصراع السوري، إذ إنه – وبالنظر لجغرافيا الصراع – ومع الوصول شيئا فشيئا لحالة من الجمود بين أطرافه؛ تبدو الدولة السورية بشكلها الحالي وقد انفكت عُراها إلى ثلاثة أجزاء: منطقة موالية للنظام، ومنطقة أخرى موالية للمعارضة، وثالثه كردية ذات علاقات بشمال العراق وبجماعات كردية في تركيا.

وامتدادا لذلك؛ فإن الحالة العراقية التي تشهد تفكيكا كان سابقا على إعلان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام عن سيطرته على الموصل، وسابقا على السيطرة الأخيرة لقوات البشمرجة الكردية على كركوك، والحديث عن استفتاء لانفصال إقليم كردستان عن العراق، فتفكيك النسيج الاجتماعي والسياسي للعراق يعود إلى العام 1991 حين تمّ إنشاء المنطقة الكردية في شمال البلاد وشمالها الشرقي (بموجب قرارٍ صادرٍ عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة) في ظل حماية الغرب. أصبح هذا التقسيم السلس للعراق عنصراً دستورياً من عناصر الدولة العراقية ما بعد صدام، مع إنشاء حكومة إقليم كردستان على مدى أكثر من عشرين عاما، تميّزت حكومة إقليم كردستان بمعظم سمات الدولة، السيطرة الفعالة على الأراضي وامتلاكها قوى عسكرية خاصة بها والقدرة على إقامة العلاقات الخارجية.

وفي الحالتين (السورية والعراقية)؛ فإن شبه الدويلات المزمعة تفتقر للاعتراف الدولي رغم تحقيقها المزمع للاستقلال السياسي، فالولايات المتحدة التي دعمت إقليم كردستان لم تعلن عن دعمها استقلاله، لذا؛ فإن العراق وسوريا قد يشهدان تفككاً داخلياً محكوما بالأمر الواقع، وظروف الصراع المحتدم وأطرافه، ولكن لا يبدو أن التغييرسيطال الحدود الدولية؛ ما دامت السلطة ضمن حدودها تتسم بالضعف، وما دامت الأطراف المتصارعة، وتلك التي تدعمها؛ تتضارب مصالحها على طاولة النزاع.

النسيج الاجتماعي وسؤال الهوية!

يتعرض التركيب البنيوي للمجتمع العربي إلى تفتيت وتمزق تبدو أعراضهما متنامية بعد نحو أربعين عاما من الاستقلال السياسي، وتحول التزام المجتمع العربي بالانتساب إلى الوطن، والانتماء إلى الأمة الواحدة؛ إلى هذه التباينات الاجتماعية الحادة، والصراعات السياسية الدائمة، والانشقاقات الأقلوية-نسبة إلي الأقلية- العرقية. ثم أخيرا، إلى حروب أهلية، وطائفية.

وأول ما يمكن طرحه في أسباب ما آل إليه الوضع العربي هو شكل الدولة العربية المركزية، الذي يبدو وكأنه يتعرض لأزمة كبيرة مع انهيار أنظمة استبدادية، مثلت نموذجا مركزيا ممسكا بأجزاء دولته. إذ يبدو النظام المركزي الذي ظل مستوعبا للاختلافات العرقية والمذهبية في العالم العربي وقد فقد آليات حكمه شيئا فشيئا مع انحسار مفهوم الوطن الواحد، وتنامي الشعور لدى الأقليات العرقية والدينية بالتهميش المستقبلي من الأنظمة التي ستنشأ حديثا.

وتأخذ الدولة في العالم العربي شكل المنظومة التي ترتكز على القوة العسكرية التي تمنحها هيبة وقوة تمكنها من السيطرة على النسيج المجتمعي بتبايناته، بيد أن هذه الأنظمة التي تأخذ شكل العسكرة اعتادت في أغلب الأحيان التعاطي مع الأقليات عبر القمع تارة، أو التجاهل تارة أخرى، وهو الأمر الذي ترك رواسب نزاعات تاريخية استدعت صورة التكتل الأقلوي في أقرب الفرص سنوحا كما فعل أكراد العراق.

ورغم ما أشاعته موجة الربيع العربي من تفاؤل في التغيير داخل إطار المنظومة العربية؛ إلا أن القوى العربية وغير العربية التي وجدت في هذه الموجة ضررا بالغا على حكمها؛ أدخلت الدول العربية في معركة صراع محتدم مع إيران، مسرح أحداثه العراق وسوريا ولبنان، وهو ما تراجع بالطرح الجمعي القومي العربي عقودا إلى الوراء. وأسهم في تأجيج الصراعات المذهبية والطائفية في الوطن العربي وزيادة حدة تناقضاتها.

غير أن موجة الربيع العربي نفسها بكل ما طرحته من تغيير وإعادة تشكيل للنظام السياسي؛ كان لها أثرها على النسيج الاجتماعي، إثر عدم وضوح مشروعها الذي يدعو في شكله العام إلى مزيد من الحريات، لكنه لايطرح تفاصيل عقد اجتماعي جديد يمكن أن يستوعب النسيج الاجتماعي المتباين لكثير من الدول العربية.

وأمام هذا كله يطرح البعض تساؤلا حول عروبة العرب، فيما يوجد بينهم على الأقل إحدى عشرة جماعة عرقية أو قومية متميزة عنهم؛ إما لغة (الكرد والبربر)، أو دينا (المارون والكالدانيين)، أو الاثنين معا (مثل أتباع المعتقدات الأفريقية في السودان، فهؤلاء ليسوا عربا لا لغة ولا دينا). وهذه الجماعات تشكل أكثر من خمسة وخمسين مليون شخص (أي حوالي 20%) يعيشون بين العرب، ويتمايزون عنهم في اللغة أو الدين أو الاثنين معا. ولوح في الأفق دوما تحول متوقع لهذا التمايز العرقي إلى تمايز سياسي بأن تصبح لهم حقوق المحاصصة داخل الدولة كما يجري في العراق ولبنان.

البحث عن صيغة عقد جديد

وفيما يتعرض النسيج الاجتماعي للدول العربية إلى هزة عنيفة يعاد فيها اكتشاف عرقياته وقومياته، وتطفو على السطح مشاريعها كل على حدة؛ مدفوعة بأبعاد إقليمية ضاغطة تحكمها لغة المصالح، تبدأ رحلة البحث عن عقد جديد قائم على واحد من الأنماط الأربعة للدول التي تعيش فيها عرقيات وقوميات دينية متعددة:

أولها : شكل الدول متعددة القوميات المتصارعة (multi-nation states): أي يوجد داخل الدولة الواحدة عدة قوميات متصارعة أي ضاغطة؛ من أجل مزيد من الحقوق الجماعية، أو تسعى للاستقلال حتى لو عن طريق الحرب الأهلية. وهذا نموذج سبقت إليه الحالة السودانية التي كانت أول إرهاصات أنماط الدولة الجديدة.

ثانيها : دولة متعددة الأعراق المتصالحة (multi-ethnic states): وهي أغلب دول العالم المستقرة اجتماعيا مثل الولايات المتحدة، سويسرا، ماليزيا، فرنسا.

ثالثهما : دولة متجانسة العرق (uni-ethnic states): وهذا عدد محدود جدا من بين دول العالم التي يبدو فيها درجة عالية من التجانس العرقي، لغة ودينا، مثل اليابان وبولندا ورومانيا، حيث لا امتدادات عرقية لأي منها خارج حدودها، أو امتدادات خارجية لعرقيات أخرى داخل حدودها.

رابعهما : نمط القومية متعددة الدول (multi-state nations): حيث يكون الامتداد القومي (بما له من أصول لغوية ودينية) متعديًا لحدود دولة بذاتها. والأمر كذلك عند القوميين الكوريين الذين يعلمون أن الشعب الكوري واحد حتى وإن انقسم لأسباب أيديولوجية.

اللاعبون الإقليميون ومحددات التدخل

لا تريد الولايات المتحدة أن تغادر مواقع المتفرجين على مايجري في الشرق الأوسط رغم ما يمارسه بعض الحلفاء من الدول العربية من محاولات لإعادة دفعها مجددا إلى الخطوط الأمامية لهذه المنطقة التي لم تهدأ منذ عقود. لذا فإن واشنطن ليست ضالعة، ولن تحتاج إلى أن تكون محركة لهذا الشكل الجديد للعالم العربي الذي يمر بأكثر مراحله فوضوية، فواشنطن ترى في سوريا – وإن كانت تمر بأسوأ مراحل الحرب الأهلية- بالوعةً للجماعات المتطرفة التي تحمل شعارات لا مشروعات، فيما تراقب الولايات المتحدة وتحاول أن تحد من إمكانية تغولها أو تمددها، مستندة على دراسات واعية لخريطة هذه الجماعات ومصادر تمويلها.

وفيما تخوض الدول العربية معركتها مع الهوية ومحاولة التغلب على النعرات الدينية والعرقية من أجل حل مشكلاتها بأساليب مؤسسية وقانونية؛ تنظر الولايات المتحدة إلى هذا التحول باعتباره سيأخذ وقتا لن تضطر معه للتدخل المباشر تحت أي ظرف، خاصة وأن مثل هذه التحولات والفوضى وإعادة تشكيل عقد جديد لهذه الدول المجاورة لإسرائيل سيسكن خطوط الصراع والمواجهة مع اسرائيل ولو مؤقتا.