في نقد أطروحة «استعادة التقليد» - وصفة رضوان السيد لتفكيك الحركة الإسلامية

في نقد أطروحة «استعادة التقليد» - وصفة رضوان السيد لتفكيك الحركة الإسلامية

يعيش العالم العربي منذ أواخر سنة2010 م وضعا سياسيا صعبا للغاية، أمست فيه كل مكتسبات الدولة القطرية التي تحققت على مدى قرن من الزمان تقريبا على ضعفها وهزالتها مهددة، أو مبددة،  حيث انهار السلم الأهلي في أكثر من بلد عربي، وتعرض الأمن القومي للاختراق، وتحزبت الإدارة والقضاء والأمن في أكثر من دولة… إلخ، غير أن سيد الأدلة على قتامة الوضع العربي وبؤسه هو ما تعيشه على الأقل خمس دول عربية كبرى: (مصر العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا) من مآسٍ ومحن، والتي خلفت لحد الآن آلاف القتلى والجرحى، وآلاف السجناء والمعتقلين، وآلاف اللاجئين والفارين من حملات القمع والملاحقة، بالإضافة إلى انهيار شبه كلي لمؤسسات وقوى الإنتاج الحضاري في هذه البلدان.

إن تعثر بناء الدولة الديمقراطية في بلدان الربيع العربي وارتفاع كلفة الإصلاح دفع البعض إلى تحوير الصراع من صراع ضد الاستبداد إلى صراع حول الإسلام

إن الصلة بين هذا الوضع المأساوي والربيع الديمقراطي العربي واضحة، فكل هذه الشرور، والمآسي التي تعانيها الشعوب العربية هي واحدة من التداعيات الكثيرة للثورة الديمقراطية العربية التي انطلقت شرارتها من تونس أواخر سنة 2010م، ذلك أن الانهيار السريع للأنظمة البوليسية والعسكرية المستبدة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وتعثر بناء الدولة الديمقراطية، وفشل التيارات الثورية لأسباب ذاتية أو خارجية في إنتاج التوافقات والتعاقدات السياسية الضرورية لبناء الدولة، واستعادة الاستقرار أدى إلى تسعير الثورة الديمقراطية، والرفع من كلفتها الأمنية والسياسية والاقتصادية.

ولما كانت التيارات الإسلامية في طليعة القوى الثورية التي ساهمت بقسط وافر في نجاح الثورات العربية في البلدان السالفة، وتحملت فيما بعد مسؤوليات الحكم في ظروف انتقالية حرجة وصعبة، كان طبيعيا أن تنشأ الصلة بين التيارات الإسلامية وبين مآسي العالم العربي التي نشهدها اليوم، حيث لا يتردد اليوم الكثيرون في تحميل الحركة الإسلامية مسؤولية هذه الأوضاع، واتهامها بالتسبب في كل هذه الويلات، وخاصة تيار الإخوان المسلمين والسلفيين، وبناء عليه نجمت في الأفق الثقافي العربي دعاوى وأطاريح فكرية تحث على تفكيك التيار الإسلامي، واجتثاثه فكريا وثقافيا.

فالمعضلة بالنسبة لهذه الجماعة من المثقفين العرب، لا تتعلق بفشل سياسي يحيط بكل تجربة سياسية إنسانية، أو إكراهات الانتقال الديمقراطي، أو مخلفات زمن الاستبداد، التي وجد التيار الإسلامي نفسه في مواجهتها، سواء في تونس أو مصر أو غيرهما من البلدان، بل تتعلق أساسا بطبيعة الطرح الإسلامي، بخصوص علاقة الدين بالسياسة، أو ما يسمى بأطروحة الإسلام السياسي، بعبارة أخرى، إن القضية ليست الديمقراطية وتطلعات الشعوب العربية المشروعة لممارسة سيادتها، بل القضية هي رؤية الحركة الإسلامية للدولة، والأسلوب الذي تصل به هذه الحركة الإسلام كدين بالسياسة، ومن ثم لابد من استئصال هذه الرؤية.

إن هذا التحوير إن لم أقل التحريف لجوهر الصراع بالعالم العربي من صراع ضد الاستبداد وحلفائه ومن أجل الديمقراطية، إلى صراع ضد رؤية الحركة الإسلامية؛ يؤدي خدمة جليلة لقوى الاستبداد والتحكم بالعالم العربي، ويغطي على جرائم الانقلاب في مصر، ويتجاهل المؤامرات الكثيرة على الثورة الديمقراطية، وذلك بتأجيله لقضية الديمقراطية، وانشغاله بتفكيك التيار الإسلامي.

ومن زعماء هذا التيار، الذي حاول التنظير لهذه الرؤية وتقديمها في شكل أطروحة متكاملة المفكر والكاتب العربي الكبير الدكتور رضوان السيد، وقد أتيح لنا في الأيام الأخيرة أثناء مؤتمر مؤسسة مؤمنون بلاحدود (17- 18 ماي 2014)، التي مقرها بالمغرب الاستماع إلى تفاصيل ومفاصيل هذه الأطروحة، التي يمكن أن نعنونها بأطروحة استعادة التقليد.

وإذا أردنا إجمالها، يمكن القول – إضافة إلى ما سبق – إن معضلة الإسلام اليوم في نظر رضوان السيد تتجلى في الحركة الإسلامية بامتداداتها المختلفة السلفية والإخوانية، دون تمييز، والتي حرفت هدي الإسلام وأقحمته في مضايق السياسة، وهو ما تسبب في كوارث لا حصر لها، ليس آخرها ما حصل في مصر أثناء حكم الإخوان، وقد ازدهرت هذه الحركات في ظل هجوم عنيف ومتواصل على التقليد في الثقافة العربية والإسلامية، والذي ابتدأ منذ القرن 19م، وتلاقت فيه التيارات العقلانية أو الحداثية مع التيارات الإسلامية، فكل نقد للموروث الديني – بحسبه – هو تعزيز لمرجعية الحركة الإسلامية، وخدمة مجانية لها.

إن نقد الموروث الديني والتقليد في الحياة العربية يصب في صالح التيارات السلفية والإخوانية

وبناء عليه، يدعو الدكتور رضوان إلى وقف استهداف الموروث الديني، الذي يغذي وجود التيارات السلفية والإخوانية، ويمنحها القدرة على الاستمرار، وبالمقابل يدعو إلى استدعاء التقليد ومنحه شرعية النفوذ في الواقع، وأهم عناصر التقليد التي يراهن عليها لتفكيك نسق الحركة الإسلامية، وسلبها الشرعية الأخلاقية التي تتمتع بها: إعادة الاعتبار للمؤسسة الدينية التقليدية، وتعزيز أدوارها (العبادة والفتوى والإرشاد)، وتنظيف الساحة من كل العناصر التي تشوش عليها أو تشاركها الوظيفة سواء في المجال السني أو الشيعي (ولاية الفقيه)؛ وقف تحوير المفاهيم الإسلامية التي مارسها الإخوان والسلفيون؛ المساعدة على إقامة الحكم الصالح.

إن هذه الأطروحة التي قدمها الدكتور رضوان السيد منفعلا بحال ومآل العالم العربي اليوم، تعاني من ضعف شديد، بسبب الانحياز السياسي الواضح لصاحبها الذي لم ينتقد ولو بكلمة الاستبداد، والمحاولات الحثيثة التي تقوم بها بعض الأنظمة العربية لعسكرة السياسة بالعالم العربي، وبسبب –أيضا- افتقادها الرؤية التاريخية.

إن أطروحة استعادة التقليد هي محاولة ثقافية لإجهاض الانتقال الديمقراطي بالعالم العربي…

ومن أهم الاعتراضات التي وضعناها بين يديه مباشرة، ولم يستطع الجواب عنها، وننقلها في هذه المقالة القصيرة إلى القراء العرب:

1- مصير السؤال النهضوي: إن نقد التقليد والموروثات الدينية بالعالم العربي، والتي انطلقت في وقت مبكر، أي منذ القرن 19م، استندت إلى فرضية أساسية مفادها أن تراثنا الديني، المتمثل في فهم المتأخرين للإسلام، مسؤول بشكل أو بآخر عن تخلفنا، وبالتالي لابد من مراجعة هذا التراث ونقده، لتخليصه من الانحطاط، كما يتخلص الإبريز من التراب. وقد اتفق على هذه الفرضية/ المنطلق الليبراليون والإسلاميون وكل ألوان الطيف الفكري العربي تقريبا، فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، هل تستبطن الدعوة إلى استعادة التقليد في مجالات دينية رئيسة إقرارا ضمنيا بخطإ الفرضية النهضوية الأولى، والحاجة إلى تعويضها بفرضية ثانية، ترجع التخلف ربما إلى أسباب سياسية أو أجنبية لا علاقة لها بالمحتوى الثقافي والمعرفي للإنسان العربي، وبالتالي تمسي كل النصوص النهضوية التي ظهرت على مدى قرن من الزمان نصوصا سوريالية، لا صلة لها بالواقع، وجب التخلص منها.

فالدكتور رضوان السيد، لم يفصح عن فرضيته النهضوية إن كانت له، ولم يجبنا على هذا الاعتراض، الشيء الذي يجرد أطروحته من أي مغزى نهضوي.

2- دور الاستعمار والأجنبي: إن الحركة الإسلامية في أحد معانيها هي ردة فعل على تيار العلمنة الذي استأثر بالسلطة في فترة ما بعد الاستعمار في معظم البلاد العربية. وقد أمعن هذا التيار في قطع أوصال الاستمرارية التاريخية للإصلاح الإسلامي الذي ابتدأ في القرن 19م، وأجهض كل محاولات التحديث الذاتي، التي كان يمكن أن تؤدي إلى انتقال سلس وطبيعي نحو الحداثة دون جروح أو قطيعة، وهو ما لم يتحقق، وظهر في الفشل الذريع في بناء الدولة وترسيخ الديمقراطية والتأصيل…، وبالتالي فمشكلتنا اليوم في علاقتنا بالإسلام سواء بالنسبة للحركة الإسلامية أو الحداثيين؛ تعود في أصلها إلى الإخفاق التاريخي الذي حصل منذ ما يقرب من قرن بحسب الأحوال والدول، ومن ثم فالعودة إلى التقليد ليست بالبساطة التي قدمها لنا الدكتور رضوان، وتستدعي قولا أكبر وأوسع.

كما إن أطروحة “استعادة التقليد” تتجاهل كلية عبث الأجنبي وضلوعه في جل الأزمات العربية تقريبا، وحيلولته دون نجاح العرب في تحقيق الانتقال الديمقراطي، الذي يرى فيه الغرب تهديدا جديا لمصالحه بالمنطقة، وقد لمس أمارات هذا التهديد في الفترة الوجيزة التي حكم فيها مرسي مصر.

3- الإمكان الواقعي: إن الاقتراح الذي يقدمه الدكتور رضوان، يعاكس تماما التوجه نحو المستقبل الذي يميز كل الأطروحات الإصلاحية والتجديدية سواء كانت إسلامية أو حداثية، فلن يقبل الناس مهما كان مذهبهم بترك ما هم عليه من مذاهب والعودة إلى التقليد، وإذا كان هذا الأمر سهل على المتدينين، كما قد يبدو صوريا، فإنه صعب وعسير على الليبراليين واليساريين، ومن ثم تفتقد هذه الأطروحة شرعيتها الإصلاحية في الوقت الراهن.

4- المؤسسة التقليدية والمجتمع المدني: إن تجديد الثقة بالمؤسسة الدينية التقليدية، ووضعها في مقام البديل عن الحركة الإسلامية، وخاصة في وظائف نمط التعبد، والتدين، والفتوى، والإرشاد تحكمها بوضوح خلفيات سياسية ظرفية، وبعيدة عن روح الإصلاح ورهاناته، فمشكلة رضوان السيد في هذا المقام هي مع النفوذ والسلطة التي تمارسها الحركات الإسلامية في بعض المجالات التي تؤدي إلى تعزيز مكانتها السياسية، وهو ما يجب القطع معه.

إن هذه الدعوة تتجاهل كلية التطور الهائل الذي عرفه المجتمع المدني بالعالم العربي، واتساع المدينة العربية، حيث أمسى معظم سكان العالم العربي بالحواضر بعدما كانوا إلى زمن قريب جماعة بدو منتشرين في الأرياف، فهل تستطع المؤسسة التقليدية في هذه الظروف وبشكلها التقليدي أن تحتكر هذه الوظائف؟، وإذا تمكنت من ذلك واقعيا، وفي حدود جغرافية معينة، فهل تستطيع ذلك افتراضيا؟، ثم ما مصير الحريات التي أمست قيمة العصر، ومعيار إنسانية الجماعات؟.

 وصفوة القول، إن أطروحة الدكتور رضوان السيد تصدر عن موقف عدائي وعنيف من الحركة الإسلامية، يجردها من كل شرعيات الوجود، التي قد تمنحها بعض الصواب للحضور في العصر، ولا تخفى على القارئ المتفحص أمارات هذا العداء في منطوقه وتعبيره، وجدير بالذكر أن مثل هذه المسبقات لا تتيح لصاحبها إمكانية صوغ أطاريح فكرية أو إصلاحية متوازنة، ونافعة، بقدر ما تتيح له تأليف تبريرات وتحليلات أيديولوجية فاقدة للمصداقية العلمية.

إن الذي يضع بينه وبين الحركة الإسلامية سدا عاليا من الكره والمسبقات لا يستطيع محاورتها وفهمها، ومن ثم تغييرها، بل على العكس من ذلك يؤدي إلى مزيد من صلابتها وتخلفها، الذي يضر بمصالح العرب واستقرارهم. ومن ثم، فأطروحة “استعادة التقليد” نظرا لطابعها العدائي المفرط، لا يرجى من ورائها نفع، بل على العكس من ذلك تضع بين يدي قوى الاستبداد والردة سكينا آخر لذبح أبناء الحركة الإسلامية، فهل يدرك هؤلاء المفكرون خطورة ما يسطرون؟.

امحمد جبرون
امحمد جبرون
باحث وأكاديمي مغربي، يعنى بالتاريخ والفكر السياسي الإسلامي.