يقيم الكثيرون في العالم العربي ربيع الثورات من منظور أيدولوجي، ويتسبب هذا في الكثير من الجدل بين المؤيدين للثورات والمحبذين لاستعادة أوضاع ما قبل الثورات، فأنصار الثورات يذهبون إلى أنها بمثابة ضرورة تاريخية للتخلص من أنظمة الاستبداد التي تمثل انحرافا عن التاريخ العام للأنظمة السياسية عبر العالم، والذي يتحرك قدما نحو المزيد من تمكين الشعوب. أما معارضو الثورات فيعتبرونها ترجمة لسيناريو الفوضى الخلاقة الذي سبق وأعلنت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس قبل سنوات، وأنها جزء من مؤامرة لتقسيم دول المنطقة، ويباركون من ثم أيّ إجراءات من شأنها أن تنسخ ما قامت به الثورات من تغيير.

“استقرار الأنظمة” .. مدخل لإعادة التقييم

ويبدو أنه لا سبيل لحسم الجدل بين الفريقين، فكل فريق يرى في حججه التعبير الوحيد عن المنطق، كما أن أيا من الطرفين لا تتوافر له الرغبة في إعادة النظر فيما يعتنقه من مسلمات. ومن هنا؛ فإن هذه الورقة تقترح أن تقيم تجربة الثورات من خلال مدخل مختلف، ألا وهو مدخل “استقرار الأنظمة”، فالمنطق البسيط يشير إلى أن الثورات التي يترتب عليها أوضاع غير مستقرة تفقد قدرا كبيرا من أهميتها ومن تعاطف المؤيدين لها، وعلى العكس؛ فإن الانقلابات التي تنجح في إقامة أوضاع مستقرة تشجع الناس على التعايش معها والقبول بنتائجها حتى لو أتت فى أعقاب ثورات طموحة.

ومن ثم يمكن أن نخرج من الجدل حول تقييم الثورات والانقلابات إلى النقاش حول مدى استقرار ما يتمخض عن كل منهما من أوضاع. ولما كانت ثنائية “الثورة والانقلاب”لم تتحقق على نحو كامل في أي بلد عربي سوى مصر، فسوف تركز هذه الورقة على مناقشة الحالة المصرية، وتحديدا سوف تحاول الإجابة عن السؤال:هل أفرزت أوضاع ما  بعد 3 يوليو 2013 (تاريخ تدخل الجيش لعكس المسار السياسي لثورة يناير) نظاما أكثر استقرارًا وتوازنا مما كان عليه الحال قبلها أم العكس؟

ثنائية “الاستقرار” و”التوازن”

ولكن في البداية ينبغي مناقشة المقصود بمفهوم”الاستقرار”ومفهوم آخر وثيق الصلة به ألا وهو مفهوم “التوازن”. فالتوازن يشير إلى تلك الحالة التي تحقق لأطرافها مصلحة نسبية تدفعهم إلى المحافظة عليها، والتوازن بطبيعته عرضة لتحديات تصدر من البيئة التي تحيط به، فإذا نجح النظام وهو في حالة اتزان أن يواجه هذه التحديات، فعند هذه الحالة يُوصف بأنه نظام “مستقر”، وهذا يعني أن النظم المستقرة ليس لديها القدرة على الاتزان فحسب، ولكن أيضًا القدرة على تجاوز ما تتعرض له من تحديات.

ويلتبس هذا المفهوم للاستقرار والذي يمكن أن نسميه بـ”الاستقرار الديناميكي” بمفهوم آخر يمكن أن نطلق عليه “الاستقرار الجامد” وهو الذي يشير إلى استمرار المنظومة على حالة معينة من دون أن تتعرض لأي تهديدات أو تحديات خارجة عنها. ولقد جرب المصريون هذا “الاستقرار الجامد” طوال فترة حكم مبارك التي كانت توصف بأنها مستقرة ولكنها فشلت عند أول تحدٍ حقيقي. فالأنظمة المستقرة ديناميكيا ليست هي التي لا تتعرض لأي تهديدات، ولكنها التي تنجح في التعافي بعد أن تتعرض لتحديات حقيقية؛ وإذا كان نظام مبارك قد نجح في أن يديم الجمود السياسي لعقود طويلة؛ فإن سقوطه عند أول تحدي خارج عن سيطرته يعني أنه لم يكن مستقرا بالمعنى الديناميكي.

الاستقرار الديناميكي وتقييم الأوضاع

ويحيلنا هذا إلى التساؤل: متى يكون النظام مستقرًا بالمعنى الديناميكي؟ والإجابة هي: يكون الاستقرار ديناميكيا عندما تتحقق ثلاثة عوامل؛ أولها: حينما ينبثق من أسفل إلى أعلى، ثانياً: يكون غير مفروض بالقوة القاهرة، ثالثاً وأخيرا: حين يكون ناتجا عن حالة من التفاعل الحر والمفتوح الذي لا يستثني أيًّا من أطراف أو مكونات المنظومة على نحو عمدي.

وبناء على هذه المعايير يمكن القول أن منظومة انقلاب ما بعد الثالث من يوليو لا تستوفي شروط المنظومات المستقرة ديناميكيا، وذلك لأن العناصر الثلاثة السابقة غير متحققة فيها، فحالة “الاستقرار” التي تشهدها مفروضة بالقوة (عبر تدخل القوات المسلحة ومن خلال القبضة الأمنية المشددة)، ومن أعلى إلى أسفل (فمنذ 30 يونيو أصبح الحراك الشعبي المسموح به هو فقط المؤيد لسلطة الانقلاب)، ولأنها تتضمن إقصاء أطراف معتبرين (في واقع الأمر معظم خصوم نظام 3 يوليو والمختلفين معه يقبعون الآن فى السجون والمعتقلات).

وبناء على نفس المعايير يمكن الزعم أن النظام المصري في مرحلة ما قبل انقلاب 3 يوليو كان يعكس استقرارا أكبر، وذلك لأن عناصر الاستقرار (الديناميكي) الثلاثة كانت متحققة بدرجة ما. فقد كان للجماهير دورا أكبر، حيث كان الشارع هو المحرك الحقيقي للأحداث. كما تراجعت الدولة الأمنية وكان الاعتماد على القوة المسلحة أقل، والأهم أن هذه المرحلة شهدت تفاعلا حرا بين كافة مكونات المجتمع السياسي على نحو لم يكن يقصي أو يستبعد أحدا. ومن دلائل استقرار “منظومة الثورة” أنها صمدت لفترة طويلة أمام الكثير من المشكلات التي افتعلها الإعلام وقوى الدولة العميقة. صحيح أنه كان هناك قدر من الفوضى، ولكن النظام كان قادرا على استيعابها بالتدريج، وفي النهاية تطلب الأمر فعلاً استثنائيا بحجم تدخل القوات المسلحة لكي يخرج المنظومة عن وضع استقرارها.

محاولة التوازن الفاشلة .. السير عكس الاتجاه

وعل العكس فإن الشواهد على هشاشة توازن منظومة ما بعد الثالث من يوليو متعددة؛ أبرزها ارتفاع تكلفة الحفاظ عليه؛ فهو توازن بحاجة إلى استنفار أمني وعسكري واسع المجال، لدرجة زرع الجنود في الجامعات والمدارس، وتوزيع الدبابات على الميادين والشوارع. وهو بحاجة أيضًا إلى خطاب إعلامي موجه وشديد السطحية لبرمجة عقول المتابعين على نحو جماعي. وهو بحاجة إلى إعادة تحديد أدوار كافة وزارات الدولة، وعلى رأسها وزارة الخارجية التي انحصرت وظيفتها مؤخرا في إيفاد المندوبين للخارج لتسويق أوضاع ما بعد الثالث من يوليو، ومحاولة إقناع العالم أن حبس “رئيس منتخب” ليس انتهاكا للديمقراطية ولكن تعضيد وحماية لها. وهو بحاجة —أخيرا— إلى تمويل خارجي من مصادر لا تخفي مشروطيتها السياسية ولا تخجل من إعلان تدخلها فى الشأن المصري الداخلي. كل ما سبق يعكس تكلفة الحفاظ على الاستقرار الجامد، الذي ليس في حقيقته سوى توازن هش لا يصل إلى رتبة الاستقرار الديناميكي الذي لا تحتاج المنظومة في ظله أن تتحمل كل هذه التكاليف.

من ناحية أخرى فإن سيناريو الإقصاء، الذي تعتمده منظومة الانقلاب، وإن كان يضمن تحقيق انتصارات سهلة فى الاستحقاقات السياسية؛ إلا أنه يصيب مؤيديه بالإحباط، فيحجمون مع الوقت عن المشاركة فى “منافسات” بلا تحديات حقيقية، ومن ثم يكون النصر المترتب عليها نصرا بلا معنى، لأن الخصم الحقيقي تم استبعاده قهرا. فمن النجاح المتعجل لمظاهرات الثلاثين من يونيو، إلى تمرير الدستور بأغلبية مبالغ فيها، إلى انتخابات رئاسة تفتقر لمعنى المنافسة، تكون المحصلة حالة من الاستقرار الهزيل، والتوازن الهش، الذي يترقب الجميع مآله إذا ما تعرض لاختبار حقيقي خلال الفترة القادمة.

وفي الوقت ذاته فإن الاستقرار الجامد له أثر عكسي على المستوى الاقتصادي. فمن الصعب إقناع المستثمر الخارجي بالمجيء إلى دولة تم فرض الاستقرار السياسي فيها بالإكراه، ولهذا فقد تزامن مع إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية انهيار غير طبيعي فى البورصة المصرية. ما يوحى بأن استقرار الاقتصاد لا يتوقف فقط على وجود رئيس للبلاد، ولكن على كيفية وصول هذه الرئيس إلى الحكم والطريق التي سلكها لتحقيق الاستقرار السياسي بها.