النظر الحضاري الإسلامي: ضرورة فكرية وحركية
مدحت ماهر

في عالم الطبيعة التي خلقها الله تعالى ذرة ومجرة، ولكل نظارتها المناسبة ووسيلة تفحصها؛ للأولى ميكروسكوب مدقق، وللثانية تليسكوب مقرب. وكذلك في ظواهر الحياة منها وقائع جزئية محدودة المكان والزمان وتتعلق بأعداد محدودة من البشر، وغالبا ما يحكمها قانون التغير، ومنها واقعات كلية مترامية المكان والزمان والأشخاص، وتكون لها أحوال وسمات مستقرة تعبر عنها وتميزها. وكل من المستويين يتطلب نظارة أو منظورا يليق بإمكانيات رؤيته والتعامل معه.
القرآن والتأسيس الكلي والجزئي
القرآن الكريم الذي يوجه أنظارنا إلى السماوات والأرض وما فوقهن وما تحتهن، وما بين ذلك من آيات كبرى (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض..)-الآية، يحدثنا في الوقت نفسه عن موازين قسط مثاقيلها الذرات وحبات الخردل التي لا تكاد ترى. يحدثنا عن امرأة تجادل في زوجها، ونملة تحدث قومها، ويضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، ثم يقول: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم..)-الآية، ينقلنا بذلك من أدق الجزئيات إلى أوسع الكليات.
وليس المقصود من الكلي هنا المعاني المجردات (كالإنسان والحياة والحيوان والجماد..)، بل الكيانات والمعاني الواسعة الجامعة لمكونات وأجزاء مفردة كثيرة. فالكلي هو الفكرة المجردة يقابله الجزئي المتجسد، لكن ما نتحدث عنه الكل أي الشامل مقابل الجزء المحدود.
من ذلك يتراوح نظر الإنسان في ظواهر الحياة بين الوقائع والكيانات والتفاعلات الجزئية، وبين أشباهها على مستويات أشمل وأجمع. والذي يحدد كلية النظر من جزئيته هو ما يسمى “مستوى النظر أو التحليل”، ثم “وحدات النظر”؛ فلكل مستوى نظر وحدات نظر على قدره وسعته. فالفرد وحدة نظر في الأسرة التي هي بدورها وحدة بناء ونظر لمستوى أوسع هو الدولة، والدولة مستوى نظر ووحدة بنائها غير متجانسة تتكون من الحكومة والتكوينات المجتمعية النوعية. وكما أن الأمم تتألف من الدول، ولكل دولة سياستها الداخلية والخارجية، فكذلك العالم أو الكوكب كله مستوى نظر، والأمم وحدات بنائه، ولكل أمة حضارتها وثقافتها وتفاعلاتها الداخلية والبينية، وتعاملاتها مع الحضارات الأخرى.
العلوم الاجتماعية والرؤية الكلية
وإذا كانت العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة قد عنيت بالظواهر الجزئية القابلة للقياس الجزئي، وأنكرت –لفترة طويلة- إمكانية وأهمية دراسة الظواهر الكلية الكبيرة؛ لعدم القدرة العلمية على الإمساك بها وقياسها بدقة وانضباط وموضوعية، فإن هذه الرؤية تعرضت لمراجعات كثيرة وأساسية، أعادت للنظر الكلي اعتباره، ودافعت عن أهميته علما وعملا، وربطت بينه وبين النظر والتخطيط والأداء الاستراتيجي للدول والأمم بل للشركات الكبرى والكيانات المدنية العابرة للحدود. ومن هنا برزت مقولات وقضايا مثل: رؤية العالم، وصورة العالم، والعلاقات بين الحضارات: صدام، أو حوار، أو غيرهما، وحوار الثقافات والأديان، والعولمة والعالمية والخصوصية الثقافية، وعالم الأمم، والتاريخ الحضاري، والفلسفة الكونية، وثورة المعرفة، والمستقبليات، والمنظور الإنساني، والنسوية العالمية، والمنظورات الخضراء المتعلقة بالبيئة وتوظيف التكنولوجيا والطاقة والبحث العلمي، والأدب العالمي القادم من الجنوب… الخ.
لا يزال النظر الكلي يجادل ليحتل موقعا مناسبا في ساحة العلم والأكاديميا إلى جوار العلوم المستقرة ذات الطبيعة الجزئية السلوكية وما بعد السلوكية. وثمة موجة تحاول جذب النظر الكلي إلى “فوضى المنهجيات” و”حروب المنهجيات” كما يعبر جون جيرنج، وموجة أو موضة أخرى تعتنق مذهب التلفيق بين المنهجيات وأدوات النظر للانتقال من الأحادية الضيقة إلى التعددية الموسعة، ولكن بغير ما خيط ناظم بين زوايا النظر، في عمليات للنقد ونقد النقد غير متناهية. فقد انتقلت فلسفة العلوم خلال العقود الثلاثة الماضية من المركزية المتعسفة حول النظر الجزئي وتذرية الظاهرة الإنسانسة والمجتمعية إلى السياحة المتجولة والسباحة بلا بوصلة لتوسيع مجال النظر والتأمل، خاصة منذ نهاية الحرب الباردة وإعلان نشأة نظام دولي وعالمي جديد في العقد الأخير من القرن العشرين.
من ذلك مثلا: ظل علم الاجتماع المقارن يغوص في أعماق المجتمعات الحديثة والنامية والمتخلفة من منظورات التقاليد والتقاليع، والحاجات المعيشية والعلاقات الأسرية، وأنماط السلوك المجتمعي ونماذج التنميط باسم التحديث والتنمية المجتمعية، كل مجتمع أو تصنيف على حدة، وعلى مقياس من نموذج مجتمعي مركزي يتمثل في صورة الغرب المحدودة بفكره المادي الوضعي العلماني، ويدرس تفصيلات المجتمعات متفاصلة متمايزة، ويغوص في يومياتها وظواهرها اليومية المتغيرة مغفلا إنسانية الظاهرة العمرانية الاجتماعية الواسعة، والمشترك الإنساني المتعايش مع المميز الثقافي والإبداع الخاص داخل كل حضارة من منطلقات متنوعة. دق النظر فضاق المنظور/المنظار فعاق بناء النظرية العامة، والنظرة الكلية، في ظل عدم الاعتراف وعدم الاكتراث بظاهرة إنسانية واجتماعية كلية؛ هي: الحضارة والأمم ذات الحضارات.
العالم الإسلامي وقصور المنظور الكلي
في عالمنا العربي والإسلامي أُورثنا ذلك وفُرض علينا أن ننظر لأنفسنا أجزاء متقطعة، وأقطارا موزعة، ومجتمعات متباينة، وظواهر محدودة مفتتة جدا، من زوايا الوطنية القطرية (الدولة القومية)، وضمن حدود السيادة السياسية، والتواريخ الفرعية والمصطنعة، وتقديس الأعلام التي ما أنزل الله من سلطان، واختلاق أساطير عن بقاع صغيرة ما كان لها أصل في هويتها الخاصة ولا ادعاءات خصوصياتها القومية، وحيل بيننا وبين أن نرى أنفسنا أمة في العالم، نشارك غيرنا المشترك الفطري، ونشترك فيما بيننا وفق معايير تصنيف موضوعية معطاة واختيارية متبناة، وأن نتمايز بهذه الخصائص عن الأمم والحضارات الأخرى. فحرمنا من قوة هويتنا الموضوعية، ومن عطاءات مصادر مرجعيتنا، ومن فاعلية القيم الأقرب إلى مواجيدنا، ومن وظيفة عالمية تتيح لنا مكانا تحت الشمس في عالم الأمم والتكتلات. كل ذلك بوهم أن العالم يتراجع من الكل الكبير إلى الذرات المتشظية.
فُرض على العقل العربي والمسلم الحديث أن ينظر إلى ذاته وإلى العالم من حوله بمنظار الجزء المجزّأ، وبمنظار الغير الذي من مصلحته أن نبقى أجزاء متباعدة، لا نعرف لنا كلا واسعا، ولا كيانا جامعا، ولا دورا حضاريا فاعلا، وأن ندخل في علاقاتنا بذواتنا وعلاقاتنا بغيرنا في معضلات التناقض: الغرب المتقدم الذي استعمرنا ولا يزال يهيمن على حاضرنا هو الداء والدواء، ونحن يجب أن نبدأ من حيث انتهى الغرب، موافقين أننا أصفار لا نملك شيئا، لم نرث حضارة ولا ثقافة، لا هوية لنا، ولا مصادر مرجعية لفكرنا ولا لأنماط عيشنا، بل نحن سبة في جبين الدهر، وليس لنا سوى أن نخجل من تاريخنا، وأن ننكفئ داخل الصناديق التي صنعها لنا الغرب إبان احتلاله أرضنا: الدول-الأوطان، وأن نصنع –على منوال الغرب- أنفسنا من الصفر.
تجليات المنظور الجزئي
ومن ثم دخلنا في خطط التحرير الوطني بلا أفق يتعدى حدود الوطن، والتحرير –لمن تبناه- سياسي فقط لا حضاري، وأقمنا خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية بعد الاستقلال السياسي متفاصلين ومتنافسين بل متصارعين، ورحنا ننتج فنونا وآدابا ووجدانيات ترسخ هذا التفسخ الكبير، وصنعنا مناهج التعليم والثقافة وبرامج الإعلام والدعوة والتربية والرياضة وخطوط المواصلات والاتصالات وصك العملات على هذا المنوال، وصارت الكلمة الجامعة لقاطني كل صندوق (دولة)، المانعة اندماجنا في بحبوحة الأمة، اللصيقة بكل مكون عام أو حكومي في حياتنا هي: الوطني، القومي: المصري، السعودي، السوري، السوداني. وفي داخل الوطني يجب غض البصر عما هو أشمل وأعم، ولتصبح كلمات مثل: الأمة والوحدة الإسلامية ضربا من الخيال أو الخبال.
لا يقبل الفكر الإسلامي الحديث هذه الحالة ولا يقتنع بمبرراتها وادعاءاتها، ويراها مخالفة لمنطلقاته وآفاقه، كما يراها مضرة ومفسدة من كل وجه لواقع العرب والمسلمين ومستقبلهم. وفي المقابل ينحو الفكر الإسلامي باتجاه النظر الأوسع؛ سواء للعالم أو للوحدة التي تمثل المسلمين: الأمة، وما تحت ذلك من ظواهر كلية يمكن أن توصف بالظواهر الحضارية؛ من قبيل الاستعمار والتحرر، والعولمة والخصوصية الحضارية، والهوية الحضارية والمرجعية الثقافية، والأمة الجامعة، والدعوة إلى الله عز وجل، والتصور الإسلامي عن الإنسان والكون والحياة، وهكذا. وذلك دون أن ينسخ النظر الجزئي أو يتجاهله. وهذه هي مزية النظر الإسلامي الكبرى: الجمع بين الكل وأجزائه، بين النظرة الشاملة الواسعة الكاشف للخطوط العريضة والخلفيات الكبيرة، والفحص الجزئي المدقق للمتغيرات والقضايا المتجددة.
النظر الحضاري الإسلامي…نحو رؤية استراتيجية
من هنا تأتي أهمية تجديد الحديث عن النظر الحضاري الإسلامي بوصفه ضرورة فكرية وحركية معا. فالمعالجات الإعلامية السيارة، والتحليلات السياسية الشائعة تفترس العقل الإسلامي اليوم، وتحجب عنه إمكانات الرؤية الاستراتيجية التي تعد لها الأمم الأخرى كوادرها ومناهجها وأقسام تدريسها والتدريب عليها، وأقسام التخطيط الاستراتيجي في مواقع الإدارة العليا ليس لولاية هنا أو هناك، ولكن للأمم وعبر الأمم؛ أي للعالم بأسره. والنظر الحضاري الإسلامي الذي أفقه السماوات والأرض –على عادة القرآن المجيد في توجيه النظر الإنساني- أولى وأحق بهذا المستوى من التأمل والتدبر، والفكر والمعرفة، ثم التدبير والحركة والتفاعل.
والنظر الحضاري هنا هو مستوى من تناول الظاهرة الإنسانية والاجتماعية في كلياتها الكبرى، يختلف عن الفلسفة الاجتماعية التي تجرد الأحداث والأحوال في أفكار وقيم مجردة يدركها الذهن ويعالجها المنطق العقلي المجرد، ويستوعب –من الناحية الأخرى- الفقه الاجتماعي الجزئي الذي يقف عند الفعل الإنساني الجزئي ليقابله بالحكم الشرعي المناسب له. ومن ثم يهتم النظر الحضاري بالكليات المتعينة الماثلة الموضوعية. فالإسلام عنده عقيدة وشرعة وقيم ومقاصد وسنن بسعة هذه الخمسة وما تتضمنه من تفصيلات غير متناهية أو محصورة، والعالم حوله أمم متمايزة لها حضاراتها وثقافاتها وإنتاجها الفكري الكبير وإنتاجها المادي بأبعاده العمرانية الإيجابية والسلبية. وداخل الأمم وحضاراتها من التعددية والتنوعات والاختلافات الكثير مما لا يصح إغفاله.
نماذج النظر الحضاري الإسلامي … الواقع والمأمول
وقد قدم الفكر الإسلامي الحديث نماذج عديدة من هذا اللون من النظر، وعرفت به أسماء كبيرة دارت حول ظاهرتي الأمة والحضارة، وأعادت تقديم الإسلام عرضا كليا جامعا لافت للنظر الإنساني الحديث في عصر أضحت رؤية العالم والكوكب كلا وجملة واحدة في متناول الجميع. من هؤلاء الكبار محمد إقبال، مالك بن نبي، علي عزت بيجوفيتش، عبد الوهاب المسيري، إسماعيل الفاروقي، محمد قطب، علي شريعتي، باقر الصدر، أنور عبد الملك، ومدرسة العلوم السياسية بالقاهرة (حامد ربيع، منى أبو الفضل، نادية مصطفى، سيف عبد الفتاح)، طارق البشري، محمد السماك، منير شفيق، عبد الله عزام، مهاتير محمد، فتح الله كولن، عبد الحميد أبو سليمان، فريد الأنصاري، طه عبد الرحمن، أبو يعرب المرزوقي، داوود أوغلو، أحمد كمال باشا،… وهكذا.
وبالمثل تطورت الحركة الإسلامية من الجزئي إلى النظر الحضاري الكلي، مع التئام خطوط الأزمة التي تعيشها الأمة منذ نحو قرنين. فإذا كان رفاعة الطهطاوي المصري مثل ابن الأمة المتفحص للغرب من خلال النموذج الفرنسي، ومن ثم عمل مع محمد علي داخل الإطار المصري والعين على الأمة والخلافة المتداعية، فإن الوزير خير الدين التونسي سار على النهج نفسه، ويمكن أن تصل بذلك جهود كل من السنوسية والأفغاني ومصطفى كامل والخطابي، فالطور الثاني لحركة الإخوان المسلمين وانتشارها أفقيا، فالطور المتأخر للكل من حركة الخدمة والإغاثة الإسلامية، وحركة الجهاد الإسلامي عبر الحدود، وحركة التثاقف الإسلامي-الغربي المتجددة.
النظر الحضاري المصوب باتجاه الأمة وموقعها من العالم، والفعل الحضاري الإسلامي وتفاعله –التعاوني أو الصراعي- من العالم، فريضة منسية، وواجب وقت مضيع. آن لرواد الفكر والحركة أن يخصصوا له اهتماما خاصا، في أقسام التدريس الجامعي وما قبل الجامعي، وفي مساحات الثقافة العامة والإعلام، وفي ساحات الحوار الشبابي الواعدة في ظلال الثورات العربية، وفي أقسام التخطيط الرسمية وغير الرسمية المعنية بالتفكير والتدبير الاستراتيجي، وفي الظهير الحضاري للحركة اليومية، حتى لا نهدر جهودا كثيرا غفلة عن خلفيات الفكر والحركة التي تستحوذ عليها أمم منافسة أو معادية.
النظر الحضاري الإسلامي للثورات يجمع بينها ولا يراها وقائع متقطعة أو متفرقة، بل ظاهرة متكاملة الدواعي والمسارات والمآلات، وآن للمؤمنين بحق الأمة المسلمة في تقرير مصيرها، واختيار طريقة حياتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وتحديثا وتجديدا، أن يتحركوا عبر الحدود، وأن يتلاقوا بلا حدود، وأن يفعلوا فعلا أمتيا يمهد للانتقال من ضيق السياسي القطري الآني إلى سعة الحضاري الإنساني الماض إلى مستقبل أفضل.