إلى أين يأخذنا الانقلاب العسكري

لعل أخطر ما تفتقت عنه ذهنية الثورات المضادة بعد تمكنها من الانقلاب على الديمقراطية في بعض التجارب العربية وإعادة انتاج نفسها؛ المبالغة في القمع وتجاوز كل الخطوط الحمراء في كبح الاحتجاجات والتنكيل بدعاة التغيير السلمي بالقتل والاعتقال والتشريد والتعذيب والتشهير الإعلامي ومصادرة كافة الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية وتجيير القضاء وجميع مؤسسات الدولة لمحاربة الأطراف الفاعلة في عملية التغيير ووصفها بالإرهاب والعمالة والتطرف، واستخدام المؤسسة الدينية للتكفير وتوفير المبررات الشرعية لجميع الممارسات القمعية.
ضرورة العنف
ومن مخاطر هذا الخيار القمعي ترسيخ اليأس من الخيارات السلمية في النضال، واللجوء إلى العنف لمواجهة تحدي الاستئصال، وكما يؤكد عالم الاجتماع مصطفى حجازي في كتابه “سيكولوجية الإنسان المقهور” فإن المجتمع المقهور “يصل بالضرورة في مرحلة من مراحل تطوره إلى العنف، بعد فترة شيوع العلاقات الاضطهادية، وهنا يتوجه العنف ضد القوى المسؤولة عن القهر-المستعمر الخارجي والمتسلط الداخلي-” “ومع ترسخ اليأس من الحوار السلمي أو الرضوخ يترسخ الاحساس بضرورة العنف، وإلا تحول الشعب إلى ضحية دائمة ونهائية”. وفي هذه الحالة يستمر مسلسل العنف حتى في حالة انتصار المقهورين وتغرق البلاد في دوامة تصفيات دموية يصعب السيطرة عليها.
الخذلان الاجتماعي
وكما يقول (فانون) في كتابه معذبو الأرض:” وهكذا فالشعب الذي ظلوا يقولون له إنه لا يمكن أن يفهم غير لغة القسوة، يحزم أمره الآن على أن يعبر عن نفسه بلغة القسوة” وقد يمارس المقهور العنف على المجتمع الذي بارك القهر والظلم، فعندما تعجز أنهار دماء المستضعفين في استنهاض الضمير الجمعي لمقاومة الظلم وإدانته؛ يترسخ في أعماق المقهورين الإحساس بالخذلان الاجتماعي، وحينها سيبكي الضمير الجمعي المتحجر دمًا نازفًا، فضريبة التحجر الإنساني بالغة القسوة وقد تصل إلى حرب أهلية تتمرد على القيود الحزبية عند استمرار العنف الرسمي الأعمى وتضييق الخناق على العمل السلمي.
وفي جميع الأحوال لا يمكن للنظام العسكري أن ينجح في استئناف حالة الاستقرار على أرضية القمع والفقر، ويومًا بعد آخر تتوسع قاعدة المتذمرين ويحاصره الفشل الاقتصادي الذي رفض الانقلاب إتاحة الفرصة للديمقراطية لتجاوزه، ويجد صعوبة بالغة في الجمع بين خيارات الفساد والاستبداد والفقر، وتستوعب القوى الوطنية الحقيقية الدروس التي عجزت عن استيعابها في الماضي.
الدرس غير المستفاد
الواضح من مجريات التجربة المصرية أن القوى الإسلامية والقوى الوطنية لم تستفد من تجاربها مع منظومات الاستبداد العربي، والذي ظل يعمل على توسيع الهوة بينها من خلال بعض الخلايا النائمة التي يزرعها هنا وهناك؛ لتعميق الشرخ والانقسام ليتمكن من ضرب كل تيار على حدة والاستعانة بكل تيار ضد الآخر. ولغياب هذا الإدراك؛ استأنفت الديكتاتورية العسكرية لعبتها المفضلة في تحريض القوى الوطنية بعضها ضد بعض، وتخريب المشترك الوطني وتضخيم الصراع الأيديولوجي أو الطائفي. وما زالت المشاريع الوطنية بعد ثورات الربيع تصارع محاولات التفخيخ الطائفي والأيديولوجي. ولا سيما بعد نجاح الثورة المضادة في التجربة المصرية في تشبيب الديكتاتورية الهرمة وتجديد النظام المخابراتي إلى حين من الدهر.
الإرهاب الديمقراطي
ومن مخاطر هذه الحرب الإقليمية على الديمقراطية مساهمة النظام العربي في إدانة ملايين العرب بالإرهاب، فبعد أحداث 2001م وتصاعد الحديث الغربي عن خطر الإرهاب كانت الأنظمة العربية تطالب بتفسير واضح لمعنى الإرهاب حتى لا يستخدم لأغراض سياسية وملاحقة أعداد كبيرة من الشعوب العربية والإسلامية. وبعد عاصفة 2011م تحاول الأنظمة العربية إقناع الغرب أن الأحزاب العربية الكبيرة التي وصلت إلى الحكم في أول انتخابات عربية نزيهة؛ أحزاب إرهابية. في حين تطالب بعض الأنظمة الغربية والمنظمات الإنسانية النظام العربي بتفسير واضح لمعنى الإرهاب يكفل عدم استغلال العقل المخابراتي العربي لهذا الملف الخطير بطريقة تؤدي إلى خدمة الإرهاب الحقيقي.
الدين والإنسان والوطن
يتأكد من خلال هذه المفارقة مدى اغتراب النظام العربي التقليدي عن تمثيل الشارع العربي، والإصرار على السير عكس قوانين التاريخ في عالم تتعقد فيه المشكلات بطريقة لا تسمح بتكرار التجارب الدكتاتورية، ولا سيما في البلدان التي تعاني من أزمات في الموارد وكثافة سكانية. وأمام كل هذه المخاطر لا مناص من اتحاد الصفوف للدفاع عن مشروع التغيير، وحشد الطاقات لتحقيق طموحات الشارع العربي، وتضييق التباينات التي تصنعها الثورات المضادة في القاعدة الوطنية لمشروع التغيير الذي يجب أن تتعانق في رحابه ثلاثية الدين والإنسان والوطن، فالشروط التاريخية للتغير الديمقراطي في منطقتنا العربية تتمحور في تقارب التيارات الإسلامية والقومية واليسارية، وتشكيل الكتلة التاريخية الصلبة لمشروع التغيير الديمقراطي، وإذا كانت الديمقراطية قد خسرت هذه الكتلة في مصر فإن استمرار حضورها في اليمن وتونس من أهم ضمانات اكتمال الشروط التاريخية لمشروع التغيير الديمقراطي.
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة