انهيار الشرعية: كيف خانت النخب الثقافية الثورة في مصر

“انهيار الشرعية: كيف خانت النخب الثقافية الثورة في مصر”
الشرعية كلمة مفتاحية هذه الأيام في العالم العربي. وفي مصر تحديدا هي أكثر المفردات المتنازع عليها في القاموس السياسي الحالي، فأنصار مرسي على استعداد للموت باسم الشرعية، وخصومهم يدعّون أن الجماهير المحتشدة في ساحة التحرير هي المصدر الحق للشرعية.
ولا يبدو أن النخب الثقافية المصرية تألوا جهداً في تعريف وشرح وتفصيل هذه الكلمة المفتاحية، والاستفاضة في تفسيرها وتأويلها وتبيان معانيها ومضامينها. وكمّ التهافت الفلسفي المتدفق بلا نهاية من أقلام وأفواه المثقفين المصريين يبعث على الدوار، وجلّه في رأيي خطاب انتهازي ومتكلف وغير متسق منطقياً.
على سبيل المثال، وحسب أقوال النقاد/المراقبين التي تملأ كل وسائل الاعلام،
• هناك شرعية ثورية (وهذه مختلفة عن الشرعية الانتخابية)، وهناك شرعية دستورية. لكن هناك أيضاّ شرعية-فوق–دستورية. وتبعاً لذلك فإن شرعية الدساتير يمكن أن تطغى عليها اعتبارات المبادئ الفردية والقناعات المسبقة والأعراف السائدة، إذ يمكن “طرنبة” شرعية الدساتير عبر جملة مبادئ فوقية، أو أعراف تحتية، أو قواعد استباقية.
• وهناك شرعية تخلقهاالوعود المقطوعة وتوقعات الناس خلال السباق الانتخابي؛ وبالمقابل هناك فقدان للشرعية نتيجة للفشل في الالتزام بتلك الوعود.
• وهناك شرعية يمنحها أو ينزعها أوصياء الشرعية والقيّمون عليها، والذين هم نفسهم القيّمون على المصالح السيادية للدولة المصرية.
• وهناك شرعية لحشود الشارع، وشرعية يمليها قدر مصر في مسيرة التاريخ الإنساني.
• وهناك شرعية مفقودة لرئيس منتخب انتهك/تعدى على قدسية/نزاهة/سيادة القضاء بجرأة أشبه ماتكون بفكرة الخطيئة المهلكة في الخطاب اللاهوتي. وهناك أيضا شرعية للقاضي الذي استمر في سلك القضاء لكن مُنح أيضاً سلطات تنفيذية وتشريعية جمعاً.
• وهناك شرعية مكتسبة من الالتزام/التمسك المخلص بمبادئ الديمقراطية، أو مكتسبة من رفض اقصاء أحزاب سياسية لمجرد كونها ذات توجه ديني.
• وهناك شرعية للعقد الاجتماعي، وعدم شرعية لمن لم يخلص لذلك العقد كونه لا يؤمن حقاً بالدولة المؤسسية المدنية وشرعيتها.
باختصار، بعد ثورةٍ أطاحت بواحدة من أقدم ديكتاتوريات الشرق الأوسط، وبعد ستة انتخابات شعبية وديمقراطية مختلفة، تبدو اطروحات النخب الثقافية المصرية لماهية الشرعية وأسس تحقيقها في نظام ديموقراطي مشوشة الى حد محبط.
I
لقد وعدت ثورة 25 كانون ثاني/يناير 2011 بإحداث تحول جذري ونقلة نوعية في مفهوم الشرعية السياسية لدى النخب الثقافية. وقد خلقت الثورة أملا، يبدو الآن أشبه بحلم عابر، في أن يستطيع المصريون أخيراً استخلاص العبرة من العديد من المآسي التي ألمت بالتاريخ الانساني. وهذه العبرة بمنتهى البساطة، هي أن السلطة/السيادة/الحاكمية تعود للمواطنين، وأن المصدر الوحيد للشرعية هو نزاهة وحرمة العملية الديموقراطية نفسها. ولا يحق لأي شخص ولا لأي جماعة أن ينقض تلك العملية الديموقراطية أو أن يهضم حقها مهما قدم من مبررات مبنية على ضرورة طارئة أو حكمة نهائية.
كان الأمل في أن الربيع العربي سيكون بداية عهد جديد يدرك فيه الجميع أخيرا أن السلطة/السيادة للشعب، وأن الطريقة الوحيدة والحصرية للتعبير عن تلك السلطة/السيادة- وبالتالي التمتع بالشرعية- هي نزاهة العملية الديوقراطية نفسها. إن استقامة العملية السياسية ككل هي التي ينبغي الدفاع عنها اليوم قبل أي شيء آخر.
أي مجتمع مدني يتطلب قيماً مدنية، وتلك القيم المدنية لا يتم احترامها الا عن طريق حوار حضاري لا يقصي الآخر ولا يهمشه. هذا الحوار الحضاري لا يمكن أن يؤتي أكله ان اعتاد المحاورون استخدام لغة تقلل من قيمة الآخر أو تتعدى على قيّمه أو كرامته . فالحوارات الحضارية تهدف الى تحقيق اجماع على قيم مشتركة في المجتمع وتسعى الى حماية واحترام القيم المُختَلف عليها. الا أن الحال أصبح بأن تصم القوى الليبرالية والعلمانية الإسلاميين بالقتلة والخونة والغوغائيين والفاشيين، في حين يطعن الاسلاميون على الصعيد الآخر في ايمان وتقوى وولاء خصومهم.
الا أنه من حيث المبدأ، وبغض النظر عن درجة الانفصام التي بلغها الحوار الحضاري حاليا، فان احترام العملية الديمقراطية هي الضمانة الوحيدة لوجود طريقة سلمية وناجعة لكبح الاستبداد واخضاع المسؤولين للمحاسبة وتأسيس الشرعية. وإن فشلت كل الطرق الأخرى كان العصيان المدني هو الملجأ الأخير، لأن بمقدوره تصحيح الانحرافات في العملية الديموقراطية وفي الآن ذاته يبقى ضمن حدود النظام المدني، فالعنف والتدخلات القهرية العسكرية تنزع الشرعية عن منطق النظام المدني نفسه.
إن النخب الثقافية العلمانية في مصر والعالم العربي عموما حصرت المنطقة في دائرة مفرغة من الإحباط وهزيمة الذات، لأنها تبدو عاجزة عن فهم حقيقة أن لا شيء يغتال المبادئ السامية كالنفاق البراغماتي لحامليها.
والانقلاب العسكري، حتى ولو جاء استجابة لمظالم شائعة، يبقى ضربة قاضية للثورة المصرية؛ لأنه أعاد تأكيد سياسات الحرس القديم في مصر. فقد أتى ليرسخ سياسات الاقصاء والهيمنة والاستعلاء التقليدية والسائدة ليس فقط في مصر بل في الشرق الأوسط أجمع منذ عهد الاستعمار. للأسف جاء الانقلاب العسكري وعودة القوى الأمنية القمعية نتيجة حتمية للادعاءات المطاطة بامتلاك الشرعية من قبل أطراف عدة بعد الثورة. لذا من الضروري هنا فهم أن الفشل الأكبر من كل شيء هو الفشل الذريع الذي منيت به أخلاقيات الشرعية. فمن المفارقات الواضحة في المشهد السياسي الراهن اتهام محمد مرسي بمحاولات احتكار للسلطة، وانتهاك مبدأ سيادة القانون متمثلا في القضاء، إضافة الى التعدي على حقوق المعارضين. إلا أن ممثل السلك القضائي الذي يتربع اليوم على هرم السلطة كرئيس مصر الانتقالي لا يؤرقه عدم قانونية إغلاق وسائل الإعلام المعارضة، ولا الاعتقالات الجماعية أو حتى قتل أنصار مرسي ومؤيديه، ولا حتى احتكاره للسلطات التشريعية والتنفيذية التي منحها له العسكر.
إن النخب الثقافية العلمانية التي قدمت نفسها كحماة المبادئ المدنية والديمقراطية خلال حكم مرسي تحتفل اليوم بتعيين محمد البرادعي الذي لم يخض اختبارا انتخابيا واحدا لشرعيته، بل فُرض فرضا على سيادة الشعب المصري واستقلاليته بإرادة العسكر أيضا. ولا تفوت المرء المفارقة الساخرة بأن الرئيس المؤقت عدلي منصور، لدى جلوسه قاضيا في المحكمة الدستورية، لم يسمح بأية درجة من التدخلات السياسية لرئيس مدني، لكنه اليوم لايجد حرجاً من تلقي أوامره المباشرة من العسكر.
II
لماذا اذن خانت النخب الثقافية العلمانية المصرية ثورتها؟ ولِمَ خاضت في مثل هذه التناقضات الفاضحة التي قتلت الثورة الوليدة؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من الرجوع بالزمن إلى الوراء لفهم ما يمكن توصيفه بالأعراف التقليدية للسياسية المصرية.
قبل قيام الانقلاب العسكري بفترة طويلة، حكمت النخب الثقافية وبعض شركائها الثوريين على الثورة المصرية بالاجهاض نتيجة خوضهم فيما أصبح في زمننا الحالي خطأ متكررا. فقد تصوروا أنفسهم ملاك الشرعية الحقيقيين والوحيدين، ليس لكونهم يمثلون اإرادة الشعب، بل لاعتقادهم بأنهم وحدهم يملكون القيم الحضارية والفكرية الضرورية لقيام نظام تقدمي يضمن تحقيق الديموقراطية الحقة في معزل عن القوى/المؤثرات الرجعية.
ومنذ عصر الاستعمار أصبحت الشرعية كلمة فضفاضة/مطاطة، تُستغل لاختلاق أو طمس التاريخ، ولبناء أو تفكيك الهوية، ولإحقاق أو قمع الحقوق. كثيرون يدعون الشرعية لكن لا أحد يمتلكها اليوم ويتم فرضها حصراً عن طريق القوة المحض. وفي ظل انعدام وجود عملية مدنية شفافة ومسؤولة، يقوم من يعتقدون أنهم ملاك الشرعية الفعليين بارتكاب المجازر وبأفظع الوسائل باسم الدفاع عن الشرعية القائمة.
مفارقة أخرى، وتفيد الكثير أيضا، هي أنه وقبل الانقلاب العسكري بفترة طويلة قامت النخب الثقافية العلمانية، اليمينية واليسارية على حد سواء، بتبني الادعاء بأن الإسلاميين قد وصلوا إلى السلطة بدعم الولايات المتحدة ولتنفيذ أجندة أميركية في المنطقة. فبحسب مقالات منشورة عديدة، وآراء المثقفين على قنوات التلفاز الخاصة، لم تكن جماعة الإخوان المسلمين أكثر من أداة لتحقيق المصالح الأميركية في المنطقة.
إن إطار المؤامرة هذا قد رسمت تفاصيله في مقالات عدة نشرتها صحف المعارضة، وزعم كاتبوها أن الولايات المتحدة أوصلت الإسلاميين إلى السلطة في ليبيا وتونس ومصر، وتخطط لإيصالهم إليها في سوريا، كي تُبقي العرب متخلفين ثقافياً ومتأخرين اقتصادياً. وعلى الرغم من أن لا دولة عملت على تقويض سلطة الإخوان المسلمين كما عملته بعض دول الخليج، إلا أن المثقفين المصريين يستمرون في ادعائهم بأن ثمة مؤامرة مصرية-تركية-قطرية-إسرائيلية لدعم هيمنة الولايات المتحدة وإنهاء أي مظهر من مظاهر الاستقلال في المنطقة.
وتتكرر هذه النظرة المؤامراتية بإصرار وبلا كلل، ولكنها ليست مجرد حيلة دعائية أو ظاهرة صوتية بسيطة. فهل من المعقول أن تعتقد النخب الثقافية أن عبد الفتاح السيسي، الذي تدرب وتعلم في الولايات المتحدة، وأمثال محمد البرادعي الذي خدم في عهد حسني مبارك ويبدو أكثر انتماءً إلى الغرب منه إلى مصر، قادرون فعلاعلى وضع مسار مستقل للسياسة الخارجية المصرية؟ وهل يعقل ألا تكون النخب الثقافية قد لاحظت أنه ما أن أطيح بمرسي حتى تقدمت بعض الدول الخليجية بحزمة مساعدات مجزية وغير مسبوقة لإنقاذ الاقتصاد المصري؟
أنا على ثقة بأن النخب الثقافية قد لاحظت ذلك، ولكن هذا الإطار المؤامراتي والقائم على الاتهامات ليس الا محاولة خاوية ثقافياً للتعبير عن نقطة هامة وهي أنه ليس فقط الإخوان المسلمون بل كل إسلاميي المنطقة يفتقدون إلى الشرعية الحقة.
إن تصوير الإسلاميين على أنهم جزء من مؤامرة غربية مدفوع بالحاجة إلى إقصائهم كغرباء خارج المجتمع، وبالتالي تجريدهم من أي نوع من المصداقية التقليدية أو المحلية، بل هم عملاء مخربون تستغلهم القوى الخارجية وتتلاعب بهم. كما أنهم يستغلون الشعارات المحلية لكن لمجرد خدمة أجندات خارجية لا علاقة لها بالمصالح المادية الحقيقية للشعب الذي يدعون تمثيله.
III
ليس الادعاء بأن الإسلاميين عملاء للمصالح الأجنبية تكتيكا جديدا، فقد استخدمه كل ديكتاتور عربي قام بقمع الجماعات الإسلامية منذ الخمسينيات. وقد اضطرت النخب الثقافية العلمانية للجوء إليه، ليس فقط لعجز أفرادها عن استقطاب الأصوات الانتخابية، بل لكونهم أنفسهم معزولون وقليلو التجذر في الثقافة التي يدعون التحدث باسمها.
لقد شهد عصر الاستعمار صعود طبقة مثقفة درس معظم أفرادها في الغرب، وتم تدريبها لتشكل الطبقة البورجوازية الضرورية لادارة جهاز الدولة البيروقراطي اللازم لخدمة مصالح الاستعمار في المنطقة. الا أنه في ذلك الوقت كان العديد من مثقفي النخب ذوو التعليم الغربي يتمتعون بعلاقات وثيقة مع أعلام دينية مؤثرة ذات توجه إصلاحي، كالشيخ محمد عبده. تلك الأعلام سعت الى التوفيق بين القيم الإسلامية التقليدية وقيم الديمقراطية والدستورية والدولة الحديثة، كما جسدت رمزيا أداة ربط بين سنن التواصل التاريخي وشرعية الطريقة التقليدية.
وكانت قدرة النخب الثقافية المغرّبة على التفاوض للوصول الى أرضية مشتركة مع تلك القوى الدينية المثقفة قدأكسبتها درجة نسبية من الشرعية المحلية. وعلى نحو نمطي، كانت تلك النخب متجذرة تماما في الفكر الأوربي لما بعد عصر النهضة، لكنها لم تعرف إلا القليل عن أصول المعرفية الإسلامية لما قبل عصر الاستعمار، بل إنها في الواقع نظرت الى تراثها المحلي غالباً بعيون غربية. بمعنى آخر، ما اعتقدته هذه النخب أو فهمته من التاريخ والفكر الإسلاميين أتى جله من كتابات المستشرقين الغربيين. وحتى يومنا الحالي، ما تزال النظرة العامة لتلك النخب- أي فهمها لتطور، ومسار، وإسهامات، وحتى قيمة التراث الإسلامي- مستمدة عمليا من كتابات الباحثين الغربيين عن الإسلام بشكل حصري.
في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لعبت النخب الثقافية العلمانية دورا حاسما في ترجمة الأدب الاستشراقي إلى العربية وتدريس مصادره في جامعات المدن المصرية كافة. وبذلك كانت جسرا ثابتا لنقل الآراء الغربية عن التاريخ والفكر الإسلاميين وتحويلها إلى نظرة داخلية وحكم على الذات تستبطنهما النخب الحضارية في ادراكها.
لم يدم التعاون وعلاقات الصداقة بين النخب الثقافية والعلماء الإسلاميين ذوي التوجهات الإصلاحية والليبرالية. فمع صعود شعار القومية العربية والحركات الأيديولوجية، كالناصرية والبعثية في الخمسينيات، تغيرت ديناميكيات العلاقة بين النخب الثقافية الغربية والتوجهات الإسلامية بطرق جوهرية ودراماتيكية. فقد تبنى الفكر القومي الخطاب الديني كسلاح محافظ في مواجهة قوى التحرر الوطني التقدمية. وقد شرعنت النخب الثقافية الغربية، التي كانت بغالبيتها يسارية واشتراكية آنذاك، قمع الدولة السلطوية ودافعت عنه كمرحلة ضرورية لتحقيق أغراض تاريخية تقدمية.
نظر عدد مهم من المثقفين المصريين، كحسين هيكل، إلى الدين باعتباره مسألة شخصية وخاصة لا ينبغي أن تلعب دورا معياريا في المجال العام. لكن، في الواقع، لم يتم إقصاء الدين تماما من هذا المجال العام بل سُمح بوجوده حصرا في فضاء ضيق أتاحته الدولة العلمانية العربية. والدولة العلمانية العربية أجازت منابر رسمية للدين فخلقت بذلك دينا رسميا يجيز للدولة سياساتها ويشرعن تصرفاتها. في الآن ذاته، فقد هذا الدين الرسمي الذي ترعاه الدولة شرعيته على أرض الواقع مع تحول علماء الأزهر إلى موظفين يتقاضون رواتبهم من الدولة. ومع ترويض علماء الأزهر الأصليين، تحول الفكر الإسلامي النقدي إلى فكر تبريري راكد لا يُرضي ويسترضي إلا أبسط العقول وأبعدها عن التحدي والإلهام. وهذه الحقيقة تساعد على تفسير القوة الرمزية التي استحضرها السيسي حين أجلس شيخ الأزهر على يمينه وبابا الكنيسة القبطية على يساره لدى إعلانه عن انقلابه العسكري على شاشات التلفزة.
جاءت هزيمة عام 1967 وصعود الحركات الوهابية-السلفية ذات التمويل الخليجي في السبعينيات إعلانا بموت القومية العربية وتحديا لمكانة النخب الثقافية المتميزة في مصر. ومع أن الحركات الوهابية-السلفية سطحية فكريا، فقد استطاعت تحقيق ما لم تعد النخب الغربية قادرة على تحقيقه: ألا وهو جذب الجماهير وتحريك مشاعرها.
وبعد توظيف الدولة لعلماء الأزهر وموت الحلم القومي الاشتراكي، استقطب الخطاب الحماسي للجماعات الإسلامية ألباب الجماهير واستعاد في مخيلتها زمنا مجيدا سادته العدالة وكان المسلمون فيه أقوياء ومحترمين.
الحقيقة المرة أن النخب الثقافية الغربية استمرت في الاعتماد على أجهزة الدولة القمعية للحفاظ على مكانتها الأثيرة. وفي حين جذبت الجماعات الإسلامية جماهير الشارع المصري، عبر تبنيها العديد من مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية، وأسرت مخيلتها عبر الحلم الواعد باستعادة المجد الغابر، اختارت النخب الثقافية العلمانية طريقا مختلفا تماما.
على امتداد العقود الأربعة الماضية، اعتمدت النخب الثقافية العلمانية على الدولة السلطوية لاسترضاء الإسلاميين وقمعهم في آن. لكنها، ومع اعتناقها للغة العصر المتطورة، استخدمت لغة الغرب ومفرداته الحديثة، كالديمقراطية والتعددية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان. وبينما فشلت في تفهم طموحات جماهيرها أو التعامل معها، تبنت هذه النخب الثقافية العلمانية موقفا من الإسلاميين يزداد نخبوية- بل حتى فوقية- باضطراد، إذ استعارت لغة الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والمجتمع الدولي في خطاب مفعم بتأكيد وتهنئة الذات لقدرتها على فهم تعقيدات العالم الحديث، والارتقاء إلى مستوى التحديات التي تفرضها العولمة، وتحريك المجتمع المصري باتجاه التطور والتقدم. في أثناء ذلك، اتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء إلى درجة أكبر، وأصبحت مشاكل مصر الاقتصادية أكثر تعقيدا.
أصبح الخطابان العلماني والإسلامي بالتالي أكثر انشقاقاً. رأى العلمانيون في الإسلاميين قوى رجعية، وغالبا ما وصفوهم بالظلاميين (نسبة إلى القرون الوسطى وعصور الظلام)؛ ورأى الإسلاميون العلمانيين على أنهم غرباء عن المجتمع الذي يزعمون تمثيله. المفارقة أن كلا الطرفين تحدثا لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتابع كلاهما الجزم بأنهما يمثلان الصالح العام الحق والشرعي. وباسم الديمقراطية، فاز الإسلاميون بالانتخابات؛ وباسم الديمقراطية أيضاً، تابعت النخب الثقافية العلمانية اعتمادها على الدولة القمعية كضامن لها ضد القوى الإسلاموية الرجعية.
لكن واقعا جديدا بدأ بالظهور وتجاوز قوى المجتمع المصري وهمّشها جميعا. طبعا، بقيت القوى العسكرية والأمنية تتمتع برعاية الولايات المتحدة وتسيطر على مؤسسات الدولة، غير أن المجتمع المصري كان قد اغتنى بأموال النفط المتدفقة من الخليج، مما خلق ديناميكية غريبة ومؤلمة. تابعت بعض الدول الخليجية تمويل الحركات الوهابية-السلفية، كما مولت في النهاية بعض قنوات التلفزة الفضائية الخاصة. وانتشرت أيضا وسائل إعلام خاصة أخرى، تمتلكها طبقة مستثمرين مرتبطة بشبكة مصالح معقدة مع أموال الخليج وجهاز حكومة مبارك. ما يثير الاهتمام أن قطاعات واسعة من النخب الثقافية العلمانية اعتمدت حتى في معيشتها على هذه المصادر الثقافية المربحة.
وازن نظام مبارك بين الإعلامين الإسلاموي والعلماني. ولعبة التوازن ذاتها لعبتها وتلعبها بعض الحكومات الخليجية، إذ تمتلك إحداها قنوات فضائية علمانية، كقنوات إم. بي. سي. غير المحتشمة إلى حد ما، وتضعها في مواجهة القنوات الدينية، كقناة اقرأ. المهم أن نظام مبارك اعتمد شبكة معقدة من الحوافز، سواء العقوبات أو المكافآت، للصحافين والكتاب والشخصيات الإعلامية وكل من له تأثير على الرأي العام. فأصبح القسم الأعظم من تلك النخب الثقافية العلمانية بتحكم الدولة حيث لعبوا دور المعارضة المطيعة. وقد شرعنت هذه المعارضة المروضة والمدروسة جيدا أجهزة الدولة القمعية التي ازدادت همجية ووحشية.
شرارة الثورة المصرية أشعلها شباب فقدوا إيمانهم بكل مؤسسات السلطة، فغدوا شبابا مثاليين وبريئين ومنزهين عن الفساد. لكن الثورة نجحت بسبب الجماهير المعدمة التي عانت بما فيه الكفاية.
وضعت الثورة المصرية النخب الثقافية العلمانية المروضة والمتغطرسة أمام تحدٍ حقيقي، إذ فجأة ولأول مرة في تاريخها وجدت نفسها مدعوة عمليا لممارسة ما نظّرت إليه وبشرت به، ومدعوة للتحدث باسم الجماهير دون وساطة الدولة القمعية. فحتى حين كانت النخب الثقافية العلمانية تدافع أحيانا عن حقوق عضو في جماعة الإخوان المسلمين أو أحد الإسلامويين، كانت الدولة القمعية تبقى دائما الضامن النهائي بألا يصبح الإسلامويون أقوى من اللازم.
ولعقود خلت، قدمت هذه النخب الثقافية الكثير من التنظير حول الإرادة الحاكمة والرجعية والتقدمية ومكانة مصر في التاريخ الإنساني، لكنها للمرة الأولى في تاريخها أُجبرت على الوقوف وجها لوجه أمام الشعب المصري، واضطرت للتعامل معه وتقديم نفسها إليه. ولأول مرة في تاريخها لم تستطع ببساطة رفض الإسلاميين بالازدراء والغطرسة المعهودين، فلأول مرة كان عليها اكتشاف لغة الموطن- وهي لغة لا تنقل ببساطة المفاهيم والأفكار والحركات التاريخية الغربية وتسقطها على الواقع العربي، بل تمكّن تلك الأفكار وتأصلها وتكسبها مضامين ومعان حقيقية للشعب المصري. فهل تستطيع النخب الثقافية العلمانية العمل من خلال إرادة الشعب دون حراسة مؤسسات الدولة، كالجيش أو الشرطة أو القضاء، التي كانت تقولب هذه الإرادة وتقدمها لها بطريقة مستساغة؟
IV
لِمَ تخشى النخب الثقافية العلمانية الإخوان المسلمين إلى هذا الحد؟ الإخوان المسلمون كانوا على الدوام الضحية الأبدية، إذ لم تمّر فترة مهمة في التاريخ المصري منذ عام 1954 إلا واضطُهد فيها الأخوان وقمعوا بطريقة أو بأخرى. ولأنه لم يكن بمقدورهم الاعتماد على سلطات الدولة ومؤسساتها، طوّر الإخوان شبكة مشاريع خيرية، وعاشوا كما خطبوا بالدين بين ظهراني الطبقة الوسطى المتلاشية والجماهير المعدمة في مصر. وككل الموسرين المصريين، اعتمد الإخوان على أموال الخليج، لكن رؤوس أموالهم جمعوها حين أجبر أُعضاء الجماعة على الهروب إلى دول الخليج خلال الحكم الناصري. وخلال حكم السادات ومبارك، عاد الكثير من الإخوان الذين عاشوا في منافى الدول الخليجية إلى مصر وركزوا جهودهم على إقامة مشاريع استثمارية خلاقة اعتمدت على علاقاتهم الخليجية. مع ذلك، كان للإخوان المسلمين علاقة حب-كراهية متبادلة مع بعض الدول الخليجية، إذ تعايشوا بوضوح مع الإسلام الوهابي-السلفي، واستفادوا من السخاء الخليجي في سياقات عدة، لكنهم حافظوا في الآن ذاته على نموذجهم الإسلامي الخاص. وعلى عكس الحركات الوهابية-السلفية، أخلص الإخوان في إيمانهم بالديمقراطية كنظام حكم حتمي ومقبول إسلاميا، ورفضوا الممارسة الوهابية المشينة بتكفير خصومهم، فكان الإخوان بالتالي في موقع مناسب لاجتذاب أصوات الناخبين.
حاولت النخب الثقافية العلمانية المصرية تحدي الإسلاميين في مواجهة انتخابية. في البداية اشتكت النخب الثقافية علنا من أن الفرصة لم تتح لها للتواصل مع الجماهير والعمل معها، في حين زعموا أن الإسلاميين قد برعوا في خداع ومداهنة جمهور السذج من العامة الذين لم يستطيعوا فهم أفكار معقدة كالمبادئ الدستورية والسلطة المقيدة. ثم حاولت النخب الثقافية بكل الطرق الممكنة ثني المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن إجراء استفتاء أثار السؤال النهائي حول الهوية الإسلامية للدولة. كما حاول الكثير منهم إقناع المجلس الأعلى بأن الديمقراطية الحقة تقتضي حظر الأحزاب المؤسسة دينيا، ومنع استخدام الرموز الدينية في الانتخابات. لكن القوات المسلحة أرادت الحصول على إحساس حقيقي بنبض الشارع والجماهير، ولم ترد الإنجرار إلى مواجهة عنفية مع الاسلاميين.
فاز الإسلاميون بنسبة 77% من الأصوات في استفتاء 19 آذار/مارس 2011، ثم حققوا فوزا كاسحا في الانتخابات البرلمانية يوم 28 تشرين ثاني/نوفمبر 2011، حيث حصل الإخوان على 43.3% من الأصوات وباقي أعضاء التحالف الإسلامي على 25% منها. كذلك كانت انتخابات مجلس الشورى فوزا كاسحا حصل فيه الإخوان على 58.8% من أصوات الناخبين وحصل حزب النور السلفي على 25% منها.
شعرت الإنتلجنسيا العلمانية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة بالقلق، مثلهم في ذلك مثل طبقة النخبة من صغار الرأسماليين التي اغتنت طوال عقود، حصريا من خلال علاقتها الطفيلية بجهاز الدولة الفاسد في عهد مبارك. في 14 حزيران/يونيو أعلنت المحكمة الدستورية العليا، التي يشغل مناصبها أعضاء عينهم مبارك، حل البرلمان برمته بحجة الزعم أن القوانين الانتخابية كانت متحيزة ضد المرشحين المستقلين. وفي 18 حزيران/يونيو 2012، أقر المجلس الأعلى للقوات المسلحة “التعديلات” المشينة على الإعلان الدستوري الأول، فمنع إخضاع القوات المسلحة للرقابة أو المساءلة المدنية، ومنح الجيش حق الفيتو على قرار إعلان الحرب. ثم تحدت المحكمة الدستورية العليا بعد ذلك بأيام قليلة قانونية مجلس الشورى في إشارة واضحة إلى أرجحية حله هو أيضا.
آخر أمل تبقى للإسلاميين كان الانتخابات الرئاسية التي أجراها المجلس الأعلى للقوات المسلحة على مضض، بعد احتجاجات ومسيرات متكررة. ولكي يضمن ألا تحل المحكمة الدستورية العليا البرلمان في حال تسيده الإخوان المسلمون، سمح المجلس الأعلى والسلطة القضائية للجنرال أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، بالترشح ضد الإسلاميين برغم تهم الفساد الكثيرة المنسوبة إليه. وألقى النظام القديم بكامل ثقله الإعلامي وشبكات رأسمالييه الصغار خلف الجنرال محمد شفيق، الذي أعادت قنوات التلفزة وأجهزة الإعلام الخاصة تقديمه كشخصية ثورية تؤمن بحماس منقطع النظير بالشرعية وحكم القانون.
نظرا لأن الجنرال شفيق حظي بدعم أجهزة الدولة المصرية الكامل، ودعم أجهزة الإعلام الخاصة التي شنت هجوما مباشرا على الإخوان المسلمين، كانت المفاجأة الحقيقية أن الرئيس محمد مرسي استطاع برغم كل ذلك تحقيق انتصار ولو بفارق ضئيل بلغ 51.7% من الأصوات مقابل 48.3% حصل عليها شفيق. وقد وضعت الانتخابات الرئاسية النخب الثقافية العلمانية أمام خيار قاس: دعم النظام القديم أو تجرع الكأس المر بدعم مرشح خصومهم الإسلامي. اختار معظمهم عدم دعم أي من المرشحين، لكن الانتخابات أكدت إحساسهم بالمظلومية وقناعتهم بأن الجماهير لم تنضج بعد إلى درجة كافية لتقرير مصير البلد عبر انتخابات حرة ونزيهة.
أعطى مرسي والإخوان خصومهم العلمانيين فرصة ذهبية بالأداء الضعيف لأول رئيس مصري يأتي عبر انتخابات حرة. وكان مرسي بعد ارتياحه للانتصارات الانتخابية المتكررة قرر التحرك ضد معقلين حصينين للسلطة والامتيازات في مصر-كلاهما علمانيان، متنفذان، نخبويان، ومستاءان بشدة من ضرورة تقليص سلطاتهما. ومصر هي الديمقراطية المزعومة الوحيدة التي يُعتبر انتقاد العسكر أو القضاء فيها خطيئة جنائية، ويستحيل فيها بالتالي اختراق الحصانة التي يتستر خلفها الفساد.
على الرغم من أن الإسلاميين استطاعوا في 25 كانون أول/ديسمبر 2012 إقرار الدستور المصري الجديد بأغلبية 63.8% من الأصوات، فقد كانت تلك القشة الأخيرة. عاد النظام القديم بكل تحالفاته غير المقدسة والذهانية بعض الشيء. واستلمت النخب الثقافية العلمانية من جديد كل المنابر التي وفرتها وسائل الإعلام الخاصة، وعاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة يرفض مسودة بعد أخرى لتعديلات القانون الانتخابي بهدف إنقاذ مجلس الشورى من الحل، ثم بدأ العسكر يتفاوضون مع واشنطن لإزاحة مرسي عن السلطة.
لقد كان أوصياء الحقيقة من العسكر والقضاة بحاجة إلى إعادة وضع الثورة على مسارهاالمناسب، عبر إلغاء نتائج الانتخابات الستة، وإعادة تسليم الثورة إلى من زعموا انهم أصحابها الشرعيين- وهم أوصياء الحقيقة العلمانية القائلة بأن لا دور للدين في المجال العام، وأن الجماهير بحاجة إلى ان تساق نحو الديمقراطية بدلا من أن تؤتمن عليها كملاك حقيقيين للإرادة الحاكمة.
الأمر الأكثر أهمية، برأيي، هو أن الهلع من الجيل الجديد للإسلام الديمقراطي دفع بعض الحكومات الخليجية إلى شن حملة تخريب اقتصادي ضد حكومة مرسي تسببت بانقطاعات متكررة في التيار الكهربائي وبنقص حاد في المحروقات في أنحاء مصر كافة. كما فتحوا خزائنهم للعديد من الكتاب والصحافيين لشن حملات متواصلة، وأحيانا لا عقلانية، ضد الإخوان.
لم تكن الأعداد الهائلة من المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع يوم 30 حزيران/يونيو 2013 بأقل من هدية حقيقية لخصوم الإخوان. فقبل ذلك بأسابيع كانت النخب الثقافية العلمانية تناشد صراحةً الحرس القديم- العسكر والقضاء- التدخل لإنقاذ ثورة مصر. وفي لفتة تذكر بالدور الذي لعبته باستمرار منذ عصر الاستعمار، طالبت النخب الثقافية العلمانية الحرس القديم بالتدخل لإنقاذ البلد من حماقة سكانه الأصليين.
إن الانقلاب الفعلي كان مجرد عملية شكلية. لكن النخب الثقافية العلمانية شعرت أنها أقوى من أي وقت مضى، و اقنعت نفسها بأنها حققت خلال سنة من حكم مرسي مالم تستطع تحقيقه منذ عصر الاستعمار، ألا وهو التأييد الشعبي. لذا طارت فرحا برقم الثلاثين مليون متظاهر في ساحة التحرير، واعتبرته دليل إثبات على شرعية المشروع العلماني. فهذهالجماعة المحتشدة في ساحة التحرير تحديدا، ولا جماعة غيرها، هي مصدر الشرعية الذي لا يقبل الجدل، وهذا هو الدليل القاطع على ما كانت النخب الثقافية تعرفه على طول الخط: يجب أن يعود الإسلاميون إلى هامش السلطة حيث مكانهم، ويجب على الحرس القديم منعهم من تضليل الجماهير.
لهذا لم يكن لدى النخب الثقافية العلمانية مشكلة في الإغلاق غير القانوني لوسائل الإعلام التي يملكها الإسلاميون، ولا في الاعتقالات الظالمة التي طالت رئيس البرلمان المنحل، بل طالت حتى محامي الإخوان المسلمين أمام المحكمة الدستورية العليا.
* * *
المفارقة أن النخب الثقافية العلمانية اعترفت عن غير قصد بالدائرة المفرغة التي ما انفكت تدور فيها. فحسب رأيها، كانت ثورتا 1952 و 2013 ثورتين شرعيتين تماما في التاريخ المصري الحديث. ففي عام 1952، قام الجيش بثورته ضد الظلم ودعمه الشعب؛ وفي عام 2013، قام الشعب بثورته ضد الظلم ودعمه الجيش! لكن النخب الثقافية العلمانية تعجز عن إدراك أن الجيش في كلا العامين بقي الفيصل والحكم النهائي القابض على السلطة، والقوة الوحيدة القادرة على ابتداع وتدمير الدساتير والحقوق والمؤسسات على هواها.
يبدو فعلاً أن النخب الثقافية العلمانية المصرية مصممة على إعادة التاريخ مرة أخرى. وباحتفالها بانقلاب عام 2013، تماما كاحتفالها بانقلاب عام 1952، تظهر أنها فعلا لم تتعلم شيئا من دروس التاريخ.
ترجمة منتدى العلاقات العربية والدولية
(مع الشكر لهيئة الإذاعة الأسترالية التي سمحت بترجمة المقال من على موقعهاالإلكتروني)
)With special thanks to the Australian Broadcasting Corporation for its kind permission to translate this article from its website where if first appeared)
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة