فرنسا والجنوب الليبي السياق والأجندة

فرنسا والجنوب الليبي السياق والأجندة

لم تعد النوايا الفرنسية تجاه الجنوب الليبي خافية بل برزت للعلن وأضحت في مساق تداول واسع على ألسنة الساسة والعسكريين الفرنسيين الذين أعلنوا من منابر مختلفة توجهم نحو التدخل في هذا الإقليم الليبي الواقع على تماس مباشر مع مناطق نفوذهم التقليدي والذي تحول إلى ملاذ آمنٍ للجماعات الجهادية التي خرجت من شمال مالي بعد عملية "سرفال" الفرنسية يناير 2013م، وبالرغم من التضخيم المقصود لقوة هذه الجماعات، إلا أن تفاعلات المشهد السياسي والعسكري في ليبيا وتداعياته المحتملة، تلعب دورا أساسيا في المواقف الفرنسية، حيث لا تزال ليبيا تعاني من الانقسام السياسي والمؤسساتي بين حكومتين وبرلمانين وعمليات صراع واحتراب أهلي مستمر، أنهك الشعب والدولة في ليبيا، وجعلها عرضة للتدخلات الخارجية، بل المراهنة على أن تدفع سوء الأوضاع المعيشية وغياب الأمن قطاعات من الشعب الليبي إلى الترحيب بالتدخل الدولي لإنهاء مآسيها، وبالرغم من أن القوى الغربية والمؤسسات الدولية تميل لصالح مواقف برلمان وحكومة طبرق، غير أن الموقف من تدخل عسكري تحت غطاء دولي لتغليب الكفة لصالح حكومة الثني وقوات الكرامة بقيادة حفتر لا يزال موضع تباين دولي وإقليمي بفعل اختلاف المصالح بين الأطراف المتعددة، ففي الوقت الذي تدعو فيه أمريكا وبريطانيا والجزائر إلى حل سياسي للأزمة عبر الحوار بين الأطراف الليبية، تدفع فرنسا وإيطاليا ومصر في اتجاه تدخل عسكري خارجي، ومن الواضح أن النوايا الفرنسية الحالية تجاه جنوب ليبيا تدخل في هذا الإطار، وكأنها تترك الشرق (برقة) لمصر والغرب (طرابلس) لإيطاليا وتستحوذ هي على الجنوب (فزان) وتقاسم تركة الدولة المريضة بهذه السهولة، ولفرنسا في جنوب ليبيا غايات استراتيجية عديدة منها مباشرة الاستثمارات الكبيرة في مجالي النفط واستخراج المعادن بالجنوب الليبي والتي تسيل لعاب الشركات الفرنسية العملاقة مثل "توتال" و"أوريفا"، وهو ما من شأنه أن يجعل الثروات الليبية من أهم روافد الاقتصاد الفرنسي المتضعضع في حال ما إذا أخضعت ليبيا بذريعة مكافحة الإرهاب، كما تقدم فرنسانفسها للرأي العام الأوربي ودوائر صنع القرار بوصفها من يقوم على حراسة وتأمين حدود أوربا الجنوبية من خلال السيطرة على منافذ التهريب ومواجهة شبكات تهريب السلاح والمخدرات والهجرة غير الشرعية، غير أن المشروع الفرنسي الجديد في جنوب ليبيا والساحل الإفريقي لا يقف عند هذه الحدود بل يتعداها إلى ما هو أكبر.

دق طبول الحرب:

يعتبر وزير الدفاع الفرنسى (جون أيف لودريان) بحكم موقعه أكثر الساسة الفرنسيين تناولا للحرب الفرنسية القادمة في جنوب ليبيا، فقد دعا لورديان إلى "التحرك في ليبيا قبل فوات الأوان" واستنفار المجتمع الدولي في هذا الإطار. وقال لودريان، في تصريحات لصحيفة لوفيجارو الفرنسية: "يجب أن نتحرك في ليبيا، بوابة أوربا والصحراء الكبرى وتجنيد المجموعة الدولية لذلك"[1]

وفي مقابلة له أخرى مع صحيفة “لوجورنال دي ديمانش” قال لورديان: إن جنوب ليبيا "تحول إلى معقل للإرهابيين وأضاف أنه في هذه المنطقة يوجد بلمختار (أحد أبرز قياديي القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) وأيضا إياد آغ غالي زعيم (جماعة) أنصار الدين (…) أنا واثق بأن الموضوع الليبي مطروح أمامنا. في العام الجديد على الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والدول المجاورة التصدي لهذه القضية الأمنية الساخنة"[2].

وقد أوعزت فرنسا لحكومات الساحل الإفريقي بتصعيد مطالبتها المشتركة للمجتمع الدولي بالتدخل في جنوب ليبيا، وهو ما من شأنه أن يوفر غطاءً دوليا للتدخل العسكري الفرنسي الوشيك، وهكذا تبارى الرؤساء الأفارقة في المنتدى العالمي للسلام والأمن في إفريقيا المنعقد بالعاصمة السنغالية دكار في 15/16دجمبر 2014م، وكذلك في اجتماع مجموعة مسار نواكشوط في 19 دجمبر 2014م، في تضخيم الخطر الذي بات يمثله الجنوب الليبي على أمن واستقرار دول الساحل،فقد قال الرئيس المالي إبراهيم كيتا: "إن الجنوب الليبي هو مصدر الفوضى"؛ وحث الأمم المتحدة على التحرك من أجل القضاء على "عش الدبابير" واستئصاله نهائيا في القريب العاجل، وقال الرئيس التشادي إدريس ديبي للمنتدى: "الآن ليبيا أرض خصبة للإرهاب وجميع أنواع المجرمين". وأضاف أن حلف الأطلسي عليه التزام استكمال ما بدأه في ليبيا.

أما الرئيس النيجري محمد يوسفو فقد قال: "إن الساحل "يدفع ثمن" الفوضى السياسية التي حدثت بعد العملية العسكرية التى قام بها حلف شمال الأطلسي والتي ساعدت في إسقاط القذافي، وإن هناك حاجة لقيام الغرب بعمل مباشر لإصلاح هذا الوضع"[3].

وقبل أسابيع علق بعض الخبراء والمحللين على التصريحات والمواقف الفرنسية المتضاربة بشأن الجنوب الليبي بأنها "حالة تعكس حاجة فرنسية ملحة في حشد موقف دولي داعم لرؤيتها الخاصة بجنوب ليبيا، وأنها تبحث عن غطاء شرعي عبر الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي من أجل توجيه ضربة عسكرية للجماعات الإرهابية في جنوب ليبيا"[4]، غير أن فرنسا وبعد أحداث الهجوم المسلح على "شارل إيبدو" في باريس أو ما وصف ب 11يناير الفرنسية التي يراد لها أن تشبه 11سبتمر الأمريكية، قد وفرت لباريس دعما سياسيا ودبلوماسيا ستستغله لأبعد الحدود في إطار مشروعها الاستراتيجي الجديد في الساحل الإفريقي، وهو ما دعا البعض إلى تشبيه حادثة "شارل إيبدو" بحادثة مروحة "شارل دوفال" القنصل الفرنسي في الجزائر عام 1828م والتي اتخذت منها فرنسا مبررا لاحتلال الجزائر.

 الانتشار العسكري الفرنسي:

منذ العام 2012م، كثفت فرنسا من تواجدها العسكري في منطقة الساحل الإفريقي تحت دعاوى التصدي للإرهاب وحماية مصالحها الحيوية، وتشير خريطة الانتشار العسكري الفرنسي إلى التركيز على البلدان الإفريقية الثلاث مالي وتشاد والنيجر، حيث بدأت فرنسا عملياتها الميدانية بمنطقة الساحل والصحراء بدءا من "انجامينا".. وتقرر تجهيز وإعادة تجهيز أربع قواعد عسكرية فرنسية، في انجامينا عاصمة تشاد، ونيامي عاصمة النيجر، وغاو، وتيساليت بشمال مالي.. بالإضافة إلى تمركز القوات الخاصة بجمهورية بوركينا فاسو ومع قوة عاملة قوامها 3000 جندي فرنسي، و20 طائرة هليكوبتر، و200 عربة مدرعة، و10 مدرعات للإمداد التكتيكي والاستراتيجي، و6 طائرات مقاتلة، وثلاث طائرات بدون طيار.[5]

وبتاريخ 13 يوليو 2014 أعلن عن نهاية عملية "سرفال"، وحلت محلهاعملية جديدة تحمل اسم: (برخان، Barkhane) التي تهدف وفق ما هو معلن إلى محاربة الإرهاب على المستوى الإقليمي، فالعملية الجديدة تتضمن توحيد القوات المرابطة المنتشرة بخمس دول إفريقية (بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد) تحت لواء متجانس بقيادة الجنرال "جان بيار بلاسيه"Palasset.، آمر القوات الفرنسية سابقا في أفغانستان.

ويعتبر أحدث تطور في عملية الانتشار العسكري الفرنسي في الساحل الإفريقي هو إنشاء قاعدة "ماداما" في أقصى الشمال النيجري قرب الحدود مع جنوب ليبيا، والتي أقيمت في قلعة "ماداما" التي شيدها الاستعمار الفرنسي عام 1931م، وقد أعيد ترميمها وزودت بمطار عسكري لتتحول إلى قاعدة لطائرات الهليكوبتر في ظل عملية (Barkhane)، التي تجعل الجنوب الليبي في سلم أولوياتها.[6]

 جذور تاريخية:

تعود قصة العشق الفرنسي للجنوب الليبي إلى أكثر من قرن كامل، حيث ولدت القصة في سياق التمدد الاستعمار الفرنسي نحو عمق الصحراء الإفريقية مع نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 م، والذي صار وفق محورين كما هو معروف؛ الأول منهما كان في اتجاه الأقاليم الصحراوية في الجنوب الجزائري انطلاقا من القواعد الاستعمارية في شمال الجزائر، وأما الثاني فكان في اتجاه تشاد والنيجر انطلاقا من مالي والسنغال غربا.

لقد وجد الاستراتيجيون الفرنسيون في السيطرة على الجنوب الليبي أولوية قصوى من أجل تثبيت قواعد السيطرة الاستعمارية في الأقاليم المحتلة حديثا، ووفق التقديرات الفرنسية – حينها - تنبع أهمية الجنوب الليبي من جملة معطيات ثقافية وعسكرية واقتصادية يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أولا: القلق من قوة نفوذ الحركة السنوسية ذات الخلفية الإصلاحية والنَفس الجهادي التي كانت تتخذ من الجنوب الليبي في تلك المرحلة نقطة ارتكازٍ لها، والعداء الذي تُكنه الحركة السنوسية - ذات الأصل الجزائري والهوى العثماني- للاستعمار الفرنسي والتي نجحت في استثمار تأثيرها الديني عبر شبكة مريديها وأنصارها في عموم المنطقة باتجاه مواجهة طلائع الاستعمار الفرنسي واستطاعت بحكم علاقاتها الوثيقة مع شعوب "التبو" و"الطوارق" و"الهوسا" جعل الطموحات الفرنسية في المنطقة شديدة الكلفة، كما تذكر سجلات تاريخ مقاومة قبائل ومجموعات أقاليم الجنوب الجزائري والشمال النيجري والتشادي.[7]

ثانيا: الحاجة إلى تأمين التواجد الاستعماري في الجوار الإفريقي لليبيا وبالأخص تشاد والنيجر تأسيسا لخلق قطيعة بين ليبيا العربية الإسلامية وجوارها الإفريقي المسلم، وهو توجه استعماري يعتمد سياسة "فرق تسد" تم تعميمه على كامل الحزام العربي الإفريقي الممتد من السنغال وحتى دارفور.

ثالثا : التخطيط لنهب خيرات المنطقة وثرواتها الاقتصادية وفي مقدمتها الثروات المركوزة في باطن الأرض من يورانيوم وذهب وأخيرا غاز ونفط.

في السياق التاريخي السابق نشأت قصة الارتباط الفرنسي بالجنوب الليبي في مطلع القرن العشرين، وسوف يضيف التدخل الفرنسي الثاني في الجنوب الليبي خلال الفترة مابين (1943-1950م) عقب هزيمة الطليان في الحرب العالمية الثانية بُعداً جديدا في الاستراتيجية الفرنسية في الجنوب الليبي يتعلق هذه المرة بصراع النفوذ مع الدول الكبرى في ليبيا، حيث ظلت فرنسا تعتبر جنوب ليبيا ضمن مناطق نفوذها في القارة الإفريقية، وقد شرح "جاك بيشون" في كتابه (المسألة الليبية في تسوية السلام) - الموجه لصناع القرار الفرنسي في الأربعينات - مكانة ليبيا بالنسبة لفرنسا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. يقول المؤلف: "بعد أن خرجت إيطاليا من شمال إفريقيا، صار التحكم في ليبيا أحد أهم مشاكل تسوية السلام في البحر المتوسط، وهو أمر وثيق الصلة بالأمن العالمي، ويهم على الأخص أمن فرنسا نفسها وأمن بريطانيا".[8]

الاحتراز من تداعيات الربيع العربي:

سجلت مراكز الرصد والتحليل في كبريات عواصم العالم زلزال الربيع العربي سنة 2011م وتوابعه الارتدادية، وكانت باريس إحدى أهم العواصم الغربية التي فاجأها الربيع العربي، ومثل كابوسا مقلقا بالنسبة إليها، بناء على مجموعة من الاعتبارات من ضمنها أنه انطلق من إحدى البلدان العربية الواقعة تحت نفوذها التقليدي والمحكومة من قبل أحد رجالات فرنسا الثقات الجنرال بن علي الذي استثمرت فرنسا كثيرا من رصيدها المادي والمعنوي من أجل تثبيت أركان حكمه الديكتاتوري حتى وهو يواجه ثورة عارمة من شعبه، أما العامل الأخر المقلق لفرنسا فقد كان الخوف على الأوضاع في الجزائر بثقلها "الجيو-استراتيجي" والتي تمثل وفق المنظور الاستعماري التقليدي درة التاج الفرنسي في الشمال الإفريقي، ناهيك عن ما يمكن أن تفتحه تبعات الربيع العربي من تأثير مباشر على بلدان الساحل الإفريقي الملاصقة للبلدان المغاربية وهي التي تمثل اليوم أحد أهم محركات الاقتصاد الفرنسي بما توفره من يورانيوم ونفط.

بعد تجاوز مرحلة المفاجأة والارتباك الذي بدا واضحا في الموقف الفرنسي خلال الثورة التونسية، حزمت فرنسا أمرها وشرعت بجرأة وذكاء في مواجهة التداعيات الاستراتيجية للربيع العربي على مناطق نفوذها التقليدي، من هنا كان استثمارها المبكر في ثورة 17 فبراير الليبية، من خلال تدخلها الجوي الفعال، وكان مما شجع فرنسا في هذه المرحلة رهانها على بعض الشخصيات والمجموعات الليبية التي اضطلعت بأدوار مهمة في الثورة، بالإضافة إلى مزايا القضاء على القذافي الذي رغم كل فظاعاته وطغيانه كان صاحب مقاربة سياسية ودبلوماسية في الساحل الإفريقي شكلت باستمرار عنصر إزعاج - نسبيا- للمخططات الفرنسية.

غير أن بروز الطابع الإسلامي العام لقوى الثورة الليبية في مواجهة الضعف الميداني للشخصيات والقوى التي راهنت عليها فرنسا، جعلها تغير من تكتيكاتها في اتجاه ترك الأطراف الليبية يدمر بعضها بعضاً، والتركيز على منطقة الجنوب الليبي قليل السكان والغني بالموارد شديد الارتباط - بفعل عوامل عديدة- بشمال كل من تشاد والنيجر ومالي بالإضافة إلى الجنوب الجزائري، وهي دائرة المجال الحيوي للاقتصاد الفرنسي، وسيكون المدخل المثالي للتوجه الاستراتيجي الفرنسي الجديد هي الأوضاع في جمهورية مالي بعد الإطاحة بحكم الجنرال "أمادو توماني تورى" في انقلاب عسكري 2012م، والاضطرابات التي عرفها شمال مالي بفعل تنامي قوة الجماعات الجهادية والحركات الأزوادية التي استفادت كثيرا من انهيار نظام القذافي وتدفق السلاح الليبي. [9]

كانت الأصابع الفرنسية بادية للعيان في عملية إعداد وتهيئة المسرح في الساحل الإفريقي للتدخل العسكري الذي ستقوم به باريس في يناير 2013م فيما عرف بعملية "سرفال" التي لم تكن سوى بداية مخطط فرنسي أشمل يجعل من محاربة الإرهاب جسرا لتحقيق أجندة استراتجية أكبر.

مشروع قديم جديد:

العودة الفرنسية القوية للساحل الإفريقي بما تحمله من بواعث وما ترنو إليه من طموحات في ظل حالة السيولة التي تعيشها أوضاع دول هذا الفضاء الجغرافي والبشري - الذي تمثل خيراته الاقتصادية الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد الفرنسي - تثير تخوفات من إحياء فرنسا لمشروع قديم لديها عرف في نهاية الخمسينيات بمشروع "منظمة الأقاليم الصحراوية المشتركة" الذي كانت فرنسا تريد من خلاله دمج كل من موريتانيا والجنوب الصحراوي الجزائري مع أزواد المالي وأزواك النيجري والشمال التشادي من أجل مزيد من التحكم الفرنسي في هذه الأقاليم الغنية بالموارد الأولية، واستعدادا لتفاعلات الثورة الجزائرية التي كانت تنذر بخروج فرنسي وشيك من الجزائر بعد 132عاما من الاحتلال المباشر، وكانت فرنسا في هذه المرحلة أيضا تحاول استغلال رغبة مشاعر المجتمعات الصحراوية غير المتحمسة للاندماج مع دول "السفانا" الإفريقية[10]، وتوجيهها بشكل خفي لخدمة المشاريع الاستعمارية، وبعد أن فشل مشروع منظمة الأقاليم الصحراوية في نهاية الخمسينيات بظهور دول الساحل المعنية في شكلها الحالي عام 1960م، واستقلال الجزائر بعد ذلك عام 1962م، من الواضح أن دوائر صنع القرار الاستراتيجي الفرنسي في المرحلة الحالية قد تلجأ من أجل البقاء لأطول فترة ممكنة في المنطقة وحماية مصالحها الحيوية إلى استثمار الطموحات الانفصالية القائمة على أسس عرقية أو إرث تراكمات التهميش والحرمان التنموي في اتجاه إعادة رسم خرائط المنطقة من جديد وتشجيع قيام كيانات صحراوية جديدة، سواء تم ذلك في شكل إعادة بناء العلاقة مع المركز في الدول المعنية وفق صيغ جديدة، أو تم ذلك في شكل انفصال تام.

وستحقق فرنسا في هذه الحالة جملة من المكاسب من بينها الحصول على ولاء مجموعات صحراوية شرسة قادرة على مواجهة التهديد الذي تمثله الجماعات الجهادية، بالإضافة إلى تشريع وجودها العسكري في المنطقة بما يؤمن استمرار نهبها لخيرات الصحراء ومواردها الاستراتيجية، وبالرغم من أن هذا السيناريو الذي يتوقع أن يثير اعتراضات شديدة من دول الإقليم -وفي مقدمتها الدول الإفريقية المتحمسة الآن للتدخل الفرنسي- لا يزال بعيد التحقق- نسبيا -، إلا أن مؤشرات عديدة تنبأ بإمكانية حدوثه بناءً على ما تكشف حتى الآن من معطيات منذ التدخل الفرنسي في العام 2012م، ومن أمثلة ذلك الموقف الفرنسي الحالي من القضية الأزوادية المثير للانتباه، والانتشار العسكري الفرنسي المكثف على طول الساحل الصحراوي.

ومما يزيد هذا الطرح وجاهة تزامنه مع وجود مؤشرات على توجه أمريكي غربي مشابه في المشرق العربي، حيث يتوقع عدد من الخبراء أن تسفر الأوضاع الحالية في العراق والشام وفي ظل التدخل الدولي الجديد عن بروز كيانات جديدة سيكون الأكراد أكبر مستفيد منها على حساب الخرائط الموروثة عن مرحلة "سايكس بيكو" القديمة.

الجزائر في عين العاصفة:

التواجد الفرنسي الجديد في المنطقة موجه بالدرجة الأولى للجزائر، ونعني هنا الجزائر الدولة والشعب والدور التاريخي والحضاري، وليس النظام السياسي القائم في الجزائر الذي لا يمثل أي تهديد للمصالح الفرنسية في الجزائر أو محيطها الإقليمي، ويبدو من خلال قراءة التوجهات الاستراتيجية الفرنسية الحالية تجاه الجزائر أن فرنسا غير مطمئنة على مستقبل هذا البلد الكبير ذي الثقل الاستراتيجي في عموم المنطقة والذي يحظى بمكانة خاصة في قلب الاهتمامات الفرنسية، وتقوم المخاوف الفرنسية ذات الطابع الاستشرافي على جملة معطيات من بينها:

تصدع قاعدة الحكم في الجزائر في ظل حالة العجز التي آل إليها نظام الرئيس بوتفليقة والتباينات الآخذة في التزايد بين مختلف أقطاب النواة الصلبة للنظام والمفتوحة على كل الاحتمالات، في ظل حراك سياسي قوي للمعارضة الجزائرية التي باتت متفقة حول مبدأ إحداث تحول ديمقراطي حقيقي، وتتزامن هذه المستجدات في ظل مؤشرات على تأزم اقتصادي واجتماعي غير مسبوق، حيث أشار كاتب جزائري مؤخرا إلى: "تشكل أزمة اقتصادية اجتماعية من شأنها أن تعصف بالسلم الاجتماعي الذي اقترضته السلطة بفضل ريع النفط ...(مذكرا) بتحرش السلطة بالجنوب من خلال قضية الغاز الصخري، بعد أن استهلكوا احتياطه النفطي...الجنوب لن يسكت وقد تدخل القوى الغربية في تأزيم الوضع في الجنوب "[11].

هذه المؤشرات التي تجعل الجزائر عرضة للتأثر بمناخ الربيع العربي أكثر من أي وقت سابق تقلق الفرنسيين كثيرا، وأشد ما يقلقهم فيها أن النظام السياسي القائم في الجزائر الذي وصل حافة الإفلاس هو في الأصل نموذج مطور من الحكم القائم في مصر الآن ولا يتوقع لاعتبارات عديدة أن يواجه الحراك الديمقراطي المرتقب في الجزائر بنفس أساليب الاستئصال والإرهاب التي عرفتها البلاد في التسعينيات؛ لأنها ببساطة أسلحة استخدمت في السابق واستنفدت أغراضها، ولأن جيل حزب فرنسا في دوائر الجيش والمخابرات الجزائرية قد شاخ وخرج دائرة التأثير، ولا أحد في الجزائر اليوم مستعد لتدمير البلد على الطريقة السورية، بل إن الحكمة المغاربية التي أطرت الانتقال الديمقراطي في المغرب وتونس هي التي تستطيع تأطير أي انتقال ديمقراطي مرتقب في الجزائر.

في هذا الظرف الحساس يكون تكثيف الوجود العسكري الفرنسي في محيط الجزائر خطوة استباقية لمواجهة قادم التطورات، ففرنسا تعرف أكثر من غيرها قيمة بلد مفتاح في المنطقة مثل الجزائر، وكأن فرنسا تقول بلسان الحال لئن عسر استمرار إخضاع الجزائر في المستقبل فمن الممكن العمل على محاصرتها وإضعافها وربما العبث بوحدتها.

ويمثل الاعتراض الجزائري على التدخل الفرنسي في الجنوب الليبي تعبيرا عن الشعور بأنها مستهدفة في النهاية، فبعد أن عمدت فرنسا إلى الإيعاز لبعض الحكومات الإفريقية السائرة في فلكها من أجل تبني فكرة التدخل الدولي في جنوب ليبيا، وصفت الجزائر دول الساحل بأنها "تدفع باتجاه مناقض للتفاهمات السياسية السابقة، التي تقضي بإبعاد شبح التدخل الأجنبي  في منطقة الساحل". وفي السياق نفسه استقبلت الجزائر، الرئيس التشادي إدريس ديبي، لثلاثة أيام، في خطوة هي الأولى من نوعها، بغرض محاصرة المبادرة السياسية التي دعت إليها الدول الإفريقية الخمس.[12]

تتمتع فرنسا في شمال إفريقيا وغربها بنفوذ واسع وعميق راكمته خلال مرحلة استعمارها لهذا الفضاء الجغرافي والبشري الواسع، غير أن التحولات العميقة التي تمر بها المنطقة والعالم، باتت تهدد الاستحكامات الثقافية والسياسية التي أقامت فرنسا خلال العقود الماضية بشكل غير مسبوق، وهو ما يمثل أحد التحديات الاستراتيجية المقلقة لفرنسا وهو ما يدفعها من جديد إلى اللجوء إلى القوة الغاشمة بعد أن أفلست القوة الناعمة التي تمتعت بها في الفترة الماضية، وليس النفوذ الفرنسي قدرا محتوما، وشعوب المنطقة خَبِرت في السابق كيف تواجه المخططات الاستعمارية وتتحرر من ربقتها.


[1] للاطلاع على تصريحات وزيرالدفاع الفرنسي: يجب التحرك في ليبيا قبل فوات الأوان.

[2] وزير الدفاع الفرنسي: جنوب ليبيا معقل للإرهابيين،موقع DW

[3] حول تصريحات قادة دول الساحل حول الجنوب الليبي،على هامش المنتدى العالمي للسلام والأمن في إفريقيا المنعقد بالعاصمة السنغالية دكار بتاريخ 15/ 16 دجمبر 2014م.

[4] انظر: تقرير، فرنسا تتحرش بالجنوب الليبي ودول الجوار تمانع

[5] انظر: موقع مركز الصحراء للدراسات والاستشارات

[6] مداما موقع فرنسي على أبواب ليبيا الجنوبية

[7] الدكتور محمد سعيد القشاط: التوارق عرب الصحراء الكبرى، مركز دراسات وابحاث شؤون الصحراء، الطبعة الثانية 1989م، ص 189

[8] جاك بيشون: المسألة الليبية في تسوية السلام.،ترجمة علي ضوى، مركز جهاد الليبين للدراسات التاريخية، طرابلس،ط1،سنة 1991م، ص 392ومابعدها.

[9] انظر: مالي وعودة الاستعمار القديم، مجموعة أبحاث، منشورات منتدىا لعلاقات العربية والدولية، مطبعة الكركي، بيروت، ط 1،سنة 2014م

[10] لمزيد من الاطلاع على مشروع منظمة الأقاليم الصحراوية المشتركة، انظر : ماليوعودةالاستعمارالقديم،مرجع سابق

[11] عمار يزلي: الاستعمار يعود من الطاقة، موقع الشروق أون لاين

[12] يقين حسام الدين: الجزائر تبدأ حملة الردّ على "اجتماع نواكشوط"،موقع العربي الجديد

سيد أعمر شيخنا
سيد أعمر شيخنا
باحث ومحلل موريتاني، مختص في العلوم السياسية وتاريخ موريتانيا والساحل الصحراوي