من أوهام “العودة المتوضئة” إلى “كارثة الإخلاء”

من أوهام “العودة المتوضئة” إلى “كارثة الإخلاء”
مدخل

لعل المأساة في سيناء يلخصها مشهد الصغار الحزانى الذين يعتلون ظهر سيارة محملة بأثاث بيتهم المهدم، يرنون من بُعدها قريتهم المحاصرة بمروحيات تحتل السماء، وجنود انهمكوا في إفراغ المكان على الشريط الحدودي في رفح.

ولم ينافس مقدار الحزن الكابي على هذا المشهد إلا فاجعة صكت عيوننا بعد ظهيرة الجمعة الرابع والعشرين من أكتوبر 2014، حيثقضى ما يزيد عن الثلاثين من مجندي وضباط الجيش المصري من الرتب الصغيرة نحبهم، وأصيب ما يقارب هذا العدد، في هجوم استهدف نقطة أمنية ثابتة تتخذها القوات المسلحة المصرية على طريق رئيسي شرقي العريش، وتحديدا عند ” كرم القواديس” بمنطقة الخروبة التابعة لمدينة الشيخ زويد.

هناك باغت المهاجمون، الذين قدرهم أمنيون بخمسين من العناصر الإرهابية، بسيارة مفخخة – بحسب الرواية الرسمية - النقطة فأحدثت دمارا هائلا، ثم تلوا ذلك بهجوم بقذائف الأر بي جي ودمروا عدة مركبات كانت قد هرعت للمكان لتقدم الإغاثة وتعزز الوجود الأمني، في الوقت ذاته انتقلت مجموعة من المهاجمين صوب مواضع أمنية أخرى قريبة، وأمطرتها بزخات الرشاشات الثقيلة والهاون. وكشفت عملية تمشيط جرت فيما بعد عن زرع المهاجمين ألغاما في أكثر من موضع على الطريق.

مشهد التهجير الحزين استدعى صوراً قديمة لمعاناة من عاشوا تجربة التهجير، المدمرة للحياة والثقيلة على الروح، صوراً لأهل مدن القناة قبل نصف قرن حين أخليت المدن الثلاث تحت وطأة احتلال غاشم، وأخرى لأهالي قرى النوبة وقد نقلوا قسرا من بلادهم التي يسمونها “بلاد الذهب” مع إنشاء السد العالي.

فرش عرس الدم في كرم القواديس غيمة حزن كبيرة على المجتمع المصري، وألقى بهواجس السؤال عن الحادث؛ فهو الأضخم من جهة ما خلفه من ضحايا بين قتيل وجريح، ومن جهة دقة التنفيذ ونوعية التكتيكات واتساع نطاق الضربات، الأمر الذي يشي بتطور نوعي لقدرات فصائل الجهاد في سيناء. استدعى الحادث ذكرى عدوان آخر أليم وقع قبل عامين، وأودى بحياة عدد كبير من المجندين الصغار في نقطة حدودية برفح، خلال إفطارهم في رمضان. تساؤلات فزعة عن جدوى ومآل العملية العسكرية التي بدأت قبل عامين، وتحديدا في الثاني عشر من أغسطس 2012،في أعقاب جريمة رفح. هذه العملية التي حملت اسما موحيًا وهو “نسر “1،وجاءت ممهورة بتصريح حاسم لقائد الجيش الثاني الميداني آنذاك أحمد وصفي، يعد فيها الشعب المصري بعودة سيناء “متوضئة” إلى حضن الوطن في غضون أيام.

ومن أدخل النسر في التيه؟

لا ينكر السيناويون في العموم مخاطر تمدد الإرهاب، فقد عاينوه بأم أعينهم عبر عقد وأكثر، وعايشوه حين بلغ ذروته في حوادث ضخمة كعملية تفجير فندق طابا أو تفجير فندق غزالة بشرم الشيخ. دفعوا ثمنه مرتين؛ مرة من آثاره على معايشهم وقوتهم، ومرة من غضب القاهرة العارم الذي انصب عليهم، واستحال حملات من التخوين بحق أهلها.

لا يرغب السيناوي في طريق التعايش مع قوى تكفيرية تتمدد فيما تخلفه الدولة من فراغ وما تخلقه من كراهية، بل يريد حكم القانون ودولة المؤسسات ونظرة إيجابية لإنماء أوضاعه وانتشاله من عقود النسيان والضياع التي مرت عليه.لقد سئم السيناوي أن يظل ابنا للرفض والملاحقة والتنكيل والتضييق على المعايش وأن يبقى الضحية المختارة لسياسة دولة لم تعد ترى فيه إلا مجبولا على الخيانة أو شريرا مطبوعاً لا يتورع عن الإجرام.

كان السيناويون بعضا من الثورة، واحتفوا بها؛ إذ جاءتهم ببشارة الأمل بانقضاء عهد الاستبداد، ثم سرعان ما تبين أن ذلك لم يكن إلا وهما؛ فلم يكد شهر واحد يمر على نجاح الثورة في خلع الديكتاتور، حتى بدأت أعمال الإرهاب تضرب المدن والقرى، وتحيل سيناء إلى ساحة للفوضى. صحيح أن الملابسات الأولى لانهيار الوضع الأمني لم تختلف عما وقع في القاهرة وغيرها من المدن، حين انصبت غضبة الجماهير الثائرة، على جهاز الشرطة وأمن الدولة، ثأرا من المعاملة المسيئة التي لقيها الناس من هذه الأجهزة.

السيناويون، خصوصا البدو منهم، شاركوا في هذه الهبة الشعبية، في سياق الثورة، وطالبوا بحقوقهم وارتفعت توقعاتهم أن ينال ابن البادية ما يستحق من المساواة والحقوق. لكن الفراغ الأمني، سرعان ما استثمرته تنظيمات العنف المتمركزة في سيناء، ورأت فيه فرصتها السانحة كي تفرض هيمنتها على شبه الجزيرة الشاسعة، وكان مفاجئا لبعض أهل سيناء أن حاولت التنظيمات السلفية منافسة سلطة القبيلة التقليدية والطبيعية، وبدأت تعلن عن حلولها محل الدولة وملئها لفراغ القوة الذي خلفته، حتى أن بعض هذه التنظيمات قد أنشأ محاكم، بحسب ما تداولته صحف مصرية وأمريكية، ويسر الخدمات العامة، وأعلن عن قوات تأمين، الأمر بدأ محاذيا لظاهرة اللجان الشعبية المؤقتة التي عرفتها مدن وقرى مصر بعد انهيار منظومة الأمن في يناير 2011،ثم سرعان ما تحول إلى وجهة أخرى تعكس حلم الدولة الذي يداعب عقول التنظيمات الإسلامية المتشددة.

وازداد الحال تعقيدا بدخول إسرائيل المفزوعة على الخط، ودفعها الولايات المتحدة بكل قواها لاستخدام ورقة سيناء. ولم تقصر الولايات المتحدة في هذا، حيث فضلت استخدام فراغ القوة في سيناء كجزء من لعبتها في مصر، ومسعاها لضبط الأمور بعد رحيل مبارك على مقاس مصالحها، وتوكيد رغبتها في مزيد من الارتباط بينها وبين النخبة العسكرية الصاعدة.

في هذه الفترة دخلت سيناء مرحلة أخرى من المعاناة، فخلال عام ونصف من عمر المجلس العسكري، جرى التضييق الشديد على أهلها، وتم إحياء مذهب “شيطنة البدوي” في حملة إعلامية واسعة ابتغت استثمار ما يجري فيها لإثبات تعرض البلاد للفوضى جراء الثورة واحتجاجاتها الجماهيرية.

كذلك أنجزت في هذه الفترة تعديلات جديدة على اتفاقية السلام، على خلفية ما تثيره إسرائيل حول الانفاق إلى غزة، ومنها مطالب تعود إلى واقعة اقتحام خط الحدود في 2008 وما كان ينشأ من أسوار حدودية. الوضع في سيناءكان التكئة التي استخدمها واضعو الرهان على حكم العسكر في واشنطن، ودعمت إسرائيل ذلك عبر “لوبياتها” التي أصرت على اتخاذ الولايات المتحدة موقفا متشددا وعلنيا إزاء اتساع نطاق سيطرة السلفية الجهادية في سيناء. كل ذلك كان يصب لصالح المكون العسكري الذي كان يتنازع آنذاك على السلطة. كل ذلك الصخب والتنديد كان متعمدا معه ترك الخطر في سيناء ليختمر.

ظل الحال في سيناء عبثيا بامتياز، حتى عندما جاءت انتخابات الرئاسة برئيس منتخب، لم يتحسن الأمر كثيرا؛ فالحال هناك كان قد بلغ حدود انعدام السيادة، وتغلغلت سلطة جماعات العنف المسلح لأبعد من محيطها التقليدي، وبسطت سيطرتها خصوصا في شرق العريش وحتى الحدود مع فلسطين.

ثم كان ما كان في رفح 2012، نتاجا لهذه الحال. أتت الرياح بما اشتهى راكبو السفن التي تعبر بحر الثورة، فالحادث قد وقع في وقت دقيق، حين بلغ الصراع ذروته بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة طنطاوي وعنان من جهة، ومن الجهة الثانية الرئيس المنتخب محمد مرسي الذي لم يكن قد تقلد سلطاته إلا قبل شهر واحد. استخدم الحادث للإطاحة بقيادة المخابرات، ولاحقا جرت الإطاحة بطنطاوي ورئيس أركانه عنان، بعدما حكما البلاد عبر عام ونصف، ونازعا مرسي سلطاته. وجدير بالذكر كذلك أن نقول أن منه قد خرجت التسوية بين مرسي، وبين المكون العسكري والمخابراتي، ودشنت الحلقة الأولى من العملية نسر بقيادته كما صرح مرسي بهذا علانية. وخطط للعملية وفق نهج التدخل التقليدي للمخابرات، حملة عنيفة، يتم إسنادها شعبيا عبر اجتذاب قطاع من مشايخ العشائر البدوية المرتبطين تقليديا بالمخابرات الحربية.

ربما في وقتها لم يبد الحال بهذا السوء بين أهل سيناء والجيش، بدا أن هناك بعض احتياطات لعدم خروج الوضع عن السيطرة، ثبت فيما بعد أن السيطرة، ووعد العودة المتوضئة لم يكونا إلا وهما جميلا، فيما التفاصيل المأساوية تتراكم، وتتضخم المظلمة، وتزداد من بعد مأساة رابعة، إذ لم تتوقف الدعاية الجهادية عن استثمار مشهدها الدموي، وطرح نهجها بديلا عن السلطة الانقلابية. وكأن قدرنا إما تنظيمات مهووسة بالتكفير وإنشاء سلطوية دينية غاشمة، أو سلطويات عسكرية ذات طابع فاشي. كأنهما عدوان خلق أحدهما للآخر ، يرتبط به وجوداً وعدماً. ومنهما دعينا إلى عرس الدم في كرم القواديس.

ما الذي نقض وضوءهم في سيناء؟

الأيام الموعودة مرت، والعودة المتوضئة لم تأتِ، بل مضت سيناء تعبر أعراس الدم، وتقطعها هي ومدنا مصرية عدة جنازات شيعت المئات من المدنيين وعناصر الجماعات المسلحة، وأفراد القوات المسلحة والشرطة.

وسط هذه المشاهد المأساوية، بدت سيناء عصية على الفهم؛ فلا معنى يمكن تلمسه في تلك الأخبار والروايات التي تتلاحق حول الحادث الأليم، ولا مجيب عن الأسئلة المنطقية حول أسباب تدهور الموقف الأمني في بقعة بالغة الأهمية من الوجهة الاستراتيجية كسيناء. أما من مسئول يفسر لم آلت أوضاع البشر من أهلينا عشائر سيناء وساكني باديتها وريفها وحضرها لهذه الحال؟ وكيف بات قطاع من المصريين ينظر إلى هؤلاء المغبونين كعدو قومي؟

ربما السؤال الأكثر إلحاحا، وضاع معه ملمح الإنسان في سيناء، هو المتعلق بهواجسنا من تشكل مشهد داعشي عند بوابتنا الشرقية، وتملك الخشية منا أن يستحيل هذا المربع بين العريش ورفح تيها لجيشنا؟ كلها أسئلة مشروعة تتقاطع وحالة الارتباك التي تكتنف ردود فعل القيادات العسكرية وتلون تصريحات السياسيين. لا أجد أي تفسير لاحتمال أن تستحيل هذه الهواجس حقيقة، إلا الكراهية.

هناك بعيدا عن العاصمة، في صبيحة هذا اليوم الدموي في “كرم القواديس “لم تكن صورة أرض الفيروز، سوى جزيرة من حزن، ودروب مكلومة بحصارها وبآثار حملة عنيفة تخوضها سلطة متوترة، لا ترى فارقا موضوعيا بين جبهة قتال لعدوّ محدد الموضع، تقصفها وتدمرها، وبين حرب عصابات تجري في داخل جبهتنا وبين أزقة مدننا وقرانا. كانت سيناء كذلك مكلومة بفصائل مسلحة تحكمت في المشهد، ونجحت في تطبيق استراتيجيتها الاستنزافية التي تطيل أمد المواجهة الدموية. كل هذا على حساب المدنيين العزل من أهل المدن والقرى ممن يسددون الثمن الغالي بأكثر من طرفيها المتنازعَين.

الجدل المكتوم بين قطاع غير قليل من أهل سيناء والسلطة، يراوح بين وصف “إرهاب دولة“،و”معقل الإرهاب”؛ بين طرفيكراهية تتعاظم من جهة أهل البادية خصوصا ممن يعيشون في مناطق العمليات، يبادلونها الدولة، التي لا تكف عن شيطنتهم، وتتعلل في تبرير عنفها بأن تلك المنطقة باتت معقلا للإرهاب وبرضا شعبي.

خلال عامين فقط تردى الوضع في سيناء من حال سيء إلى حال أسوأ؛ كانت تصك وجوهنا قوائم موتى ناهزوا الألف، وتفزعنا تفاصيل إنسانية مؤلمة خلفتها حملات مداهمة وأعمال قصف، وقتل بالشبهة، وهدم للمنازل. تفاصيل تفضحها هذه الشهادات المتناثرة عن سوء المعاملة، وفيديوهات التعذيب لمواطنين عاديين، وحتى قتل الأطفال وهدم مأوى المعدمين من الخيام وبيوت الشعر، وإبعاد الناس قسرا عن بيوتهم وبساتينهم، كل هذا ظل يشعل العداوة يوميا، ورمى بنا إلى لحظة الدم في القواديس!

وفيما انفجارات سيناء تملأ العناوين في الإعلام العالمي، كانت العاصمة تعيش صخبها، وأثيرها يحفل بمعزوفة التخوين المعتمدة منذ يوليو 2013، تتصاعد ولا تهدأ، وتضيف بدورها إلى الغموض حول سيناء غموضا.

قنوات وصحف إعلام الدولة عسكري الهوى، وحتى الإعلام المستقل، -الذي بات استقلاله محلا لسؤال كبير- تحشد قواها خلف السلطة، وترسم معاً صورة بالغة القتامة لفاشية صاعدة، لا تخجل من إخراس أي صوت خارج “معركتها“، وتروّج بنشوة بلا كلل صيغة من الوطنية الزائفة منزوعة الوعي. أكثر ما يغذي الغموض حول سيناء هو ذلك الصوت الذي يفترض أن يجلي الغموض؛ إنها جوقة “محللي” الخطيئة، وهم من العسكريين القدامى والمتقاعدين المتنفذين لدى السلطة العسكرية، يفتون بأن الجيش في سيناء في حكم المضطر، وله أن يكون قاسيا وحاسما في وجه إرهاب، لا يني يستغل المواضع الفقيرة والنائية من هذه البقعة، إذ يراها بيئة خصبة بما تحمله من طابع تقليدي متشدد، تمكنه من تجنيد عناصره من بين أبنائها، وإيجاد مرتكز لأعماله التي تستهدف تقويض استقرار الدولة.

ويتكفل بوضع مساحيق الإثارة على هذه السردية، التي تروج اليوم في مصر تحت عناوين الأمن القومي الضخمة، تكهنات تلخص نظرية المؤامرة، وكأن الصراع مع القوى الجهادية قد نبت من عدم الصحراء فجأة، متجاهلين عقدين وزيادة من الصراع مع قوى الجهاد الإسلامي المسلحة في سيناء، على تنوع تنظيماتها. وتروج بين الإسلاميين قصة مثيرة مفادها أن ما يجري في سيناء كله ليس إلا “كاموفلاج” سينمائي، غايته التعمية على خسائر القوات المسلحة في ليبيا، وأن أسماء الجنود القتلى التي تُرى هي لساكني توابيت أرسلتهم فصائل إسلامية محسوبة على الثورة الليبية، بعدما قضوا حتفهم هناك في خدمة حفتر.

القصة السائدة في أوساط الإسلاميين ممن ينكرون تصاعد مخاطر الإرهاب التكفيري، وخصوصا الإخوان منهم، كانت من نتاج محسوبين على الثورة الليبية وأطلقوها منذ عدة أشهر، فيما تسمع آخرين بين الإسلاميين يهرفون بأن جماعات التكفير المسلحة الجديدة كأنصار بيت المقدس وجند الله والرايات السود، وغيرها من الأسماء التي تصلح لدراما قروسطية، ليست إلا صنيعة أمنية، وجزءاً من مؤامرة غايتها الدفع قدما بأجندة المكون الأمني المحلية والإقليمية، وضمان قبول القوى الكبرى لحكم الاستبداد وطغمته الانقلابية، باعتبارها في نظرهم الوحيدة القادرة على ردع خطر داعش ونسختها الصاعدة في سيناء.

وهي قصة أخرى نَكِدة – على ما فيها من إثارة ونقض للرواية الرسمية – تصبفي صالح من تزعم أنها تكشفهم. إذ تعزز دراما الأمن، بتجاهلها تفشي خطر التيارات الجهادية بعيد الثورات، وتمدده في فراغ السلطة الراهن، كما تتجاهل تاريخا من عقود وعمليات عدوانية لم تهدأ بفعل استمرار جذوة الفكرة الجهادية، التي لا تكف عن التشكل وتفريخ صورها التكفيرية المحاربة للدولة والمجتمع.

وسط هذا الصخب، كان طبيعيا أن يختفي صوت من يرون في الممارسات المنفلتة لعسكريي سيناء، وتهرؤ خطط مكافحة الإرهاب هناك، وتصاعد أخطاره في المقابل، أن يضيع صوت المحذرين منذ فترة طويلة من تبعات فشل الحل الأمني الذي تعريه مقتلة كرم القواديس، وتطمس معالم عدة تقارير لمنظمات حقوق الإنسان وشهادات موثقة لمراسلين وباحثين وشهود عيان تفيد بأن الكراهية هي تربة الخصب للإرهاب في سيناء، وللفشل كذلك في مواجهته!

هل هذا الفشل نتاج طبيعي لغياب استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب؟ هل هو ابن دولة “التفويض” التيفضلت أجندة عمل أمنية ضيقة الأفق، وتعجلت النتائج، بحملة عقاب جماعي موتورة تحت اسم مكافحة الإرهاب، تشي تفاصيلها بنوعية التفكير الردئ الذي أنتجها، وأوهام تسيدت عقول منفذيها ودفعتهم إلى معاداة السكان المحليين، بإظهار هذه النظرة الدونية التمييزية للسيناوي ولأهل البادية؟ هل ثمة شيء آخر يفسر الكثير من صور التعامل البربري المرصودة في أعمال القوات المسلحة هناك؟

ورغم ضجيج الإعلام الذي يصخب بخطابه الفاشي، لا زالت المخاوف تغالب نخبة العاصمة، ممن يسودهم الشعور بأن ثمة خطأ ما يحصل، ومنهم من يربط الفشل الجلي في سيناء بتلك الهجمة السلطوية على الدولة ومؤسساتها. حالة عسكرة الدولة انشغلت بولعها بتأميم المجال العام لصالح الفئة العسكرية الصاعدة، وطبقتها الداعمة في مجالات الأعمال وظهيرها التقليدي في بيروقراطية الدولة، ونست مهمتها الأساسية وموجبات إنجازها. فثمة نخبة حكم أتت مع الانقلاب، اتسمت بضيق الأفق، ويغيب أي مجال لمراجعة أعمالها، وتتضاءل فرص طرح البدائل، ناهيك أن يسمح بأى تساؤل عما يجري. فلا سلطة رقابة، وعملية بناء المؤسسات الدستورية تم وقفها عمدا، مكتفين بتقوية بنيان الاستبداد العسكري عبر قوانين وقرارات واجراءات لا تمثل بحال إرادة شعبية.

هذا الاحتكار السلطوي يجعل قضايا سيناء رهنا بإرادة حفنة قليلة من القادة السياسيين والعسكريين تتوزع بين قصر الاتحادية الرئاسي والأمانة العامة للقوات المسلحة بمنشية البكري ومقر المخابرات العامة بكوبري القبة. وسط مكون الأمن القومي هذا، تتوه الحقائق كأنما يراد لها أن توارى، مع ثرى العشرات من الجنود ممن قضوا بين اللحظتين الدمويتين!

لماذا تفضل السردية الفاشية شيطنة البدوي؟

العملية الإرهابية التي جرت في كرم القواديس تظهر بجلاء حجم القصور القتالي وضعف الجهوزية لدى القوات هناك، فضلا عن كشفها تهرؤ خطط الجيش الثاني، وعبثية التحركات التي يظن أنها تلاحق الإرهابيين، وتجفف منابع وجودهم. البساطة التي تمت بها العملية بينت حقيقة أن الحملة العسكرية نسر1،و2،تغرق في قدر هائل من التردي المهني، وأظهرت حجم المأزق الاستراتيجي، وهذا المستوى المتواضع لدى قيادات العملية الذي أعاق فهمهم نوعية التحدي في سيناء وطبيعته، ونكص بهم عن الوفاء بالاعتبارات التي يفرضها المحيط البدوي وطبائع الناس في منطقة حدودية صحراوية ذات تشكل قبلي.

مع هذه الحقيقة تجد تصريحات الأمنيين وتحليلاتهم تستثمر في الكراهية، سواء بتجاهلها موجبات التعامل مع المكون البشري، وإيلاء الاعتبار والاحترام لطبائعه، أو بالتفاتها عن خارطة العشائر المعقدة، وحتى أبسط الحقائق حول الاتصال الاجتماعي والمصلحي بين عائلات سيناء وبالأخص منها علاقة أهل المنطقة الواقعة بين العريش ورفح، مع أهل قطاع غزة وبادية جنوب فلسطين؟

يعرف أي دارس للمنطقة حقيقة اختلاط الأنساب العابر للحدود، وحقيقة أن تمايزات الجنسية بين مصري وفلسطيني والتي يصورها إعلام الدولة ليست حاضرة في هذه البقعة، اللهم إلا على مستوى الأوراق الرسمية! الناس في سيناء لا يعيرون هذا التمايز أي قيمة، بقدر ما يهمهم الاتصال العشائري الطبيعي. صفحات تاريخنا القريب تبين أنه قبل نكسة 1967 لم تكن مصر نفسها لتسمح بمثل هذا التمايز المستند للجنسية، ولم يصل عقل السلطة قبلا إلى هذا القدر من الفصل العنيف إلا مع مبارك.

حين نطالع تصريحات المهيمنين على السياسات الأمنية في سيناء نجد دلائل هذه المراوحة بين الميل لتضخيم السردية ذات النزعة الفاشية التي تستسهل تخوين البدوي والفلسطيني دون تروٍ، وبين صور تزعم العقلانية، لكنها تعيد رسم صورة البدوي السيناوي ككائن سياحي، مستبدلة صوت أهل سيناء بصوت من يعتبرونهم أشياعا لسلطات الأمن علاوة على رجال أعمال ومتنفذين من أصول بدوية، بوصف هؤلاء يعبرون عن السيناوي الحقيقي!

ربما في هذا جزء من سر تضخم هذا القدر من الاستسهال، وتسيد مقولة أن “عناصر فلسطينية” وراء الهجوم الإرهابي لدى الإعلام الموالي ومحلليه، التي تكمل ما سكت عنه تصريح الرئيس السيسي بضلوع قوى خارجية في دعم الهجوم الإرهابي.يقولون إنه قد جرى استخدام سيارة مفخخة في الحادث، وهذا بذاته دليل! ويتناسون أن تقنيات التفخيخ أثبتت نتائج التحقيق في قضية تفجير فندق الهيلتون بطابا وفندق غزالة بشرم الشيخ، أن الحادثين استخدمت فيهما السيارات المفخخة، وأنها قد أعدت في الداخل. الربط غير المنطقي بين ضلوع عناصر مقاومة فلسطينية في استهداف مناطق حدودية إسرائيلية منها ميناء إيلات بالصواريخ من الأراضي المصرية، يدفع دفعا إلى إثبات وجود صلة ما بين الحادث في كرم القواديس وبين حماس الفلسطينية. في هذه النقطة بالذات،غلبت الرغبة الأمنية الحس الصحفي، وجرى الادعاء بانفراد التوصل إلى أسماء من سموا “عناصر فلسطينية متواطئة” في العملية، وهي القائمة التي استدعت ردا رسميا من سلطة حماس، كشف عن تهافت الاتهام، وحقيقة أن القائمة إما تضم أناسا قد ماتوا، أو أناسا لم تطأ أقدامهم خارج الضفة، فضلا عن ورود شخصيات مجهولة بأسماء معتادة لدى أهل فلسطين.

لا يحتاج الأمر لذكاء كبير لفهم دوافع الإسراع بتوريط الفلسطينيين؛ حيث يبدو أن العداوة مع حماس (وهي فرع من الصراع بين النظام والإخوان) قد خرجت عن عقالها. ولننظر لما جرى في خلال حرب إسرائيل الأخيرة على غزة. هذا الخطاب المتهافت الذي يستهدف إحراج حماس، واستكمال المشروع القديم لهدم الأنفاق وإحكام الحصار والضغط على المقاومة، قد صار ثمنه يقتطع من الأمن القومي، لصالح إسرائيل ولصالح المناكدة بين نخبة الانقلاب ونخبة تنظيم الإخوان.

هذه السردية الأمنية مطلوبة لذاتها، ولا جديد فيها؛ فمقولاتها الأساسية هي ذاتها التي تتكرر كلما انفجرت في وجوهنا حادثة من نوعية كرم القواديس. شيطنة السيناوي في الإعلام صارت مركز خطاب الحرب على الإرهاب، الذي جعل كلمة سيناء والخطر مترادفين، وقصده أن يبقى هذا السيناوي المتخيل الأكثر حضورا في تشكيل وعي الناس عن عدوهم القومي، جنبا إلى جنب مع صورة الحمساوي، وصورة السلفي المسلح.

إنها الاستراتيجية التي خلقها مبارك ليلعب بها ورقة في السياسة الداخلية المصرية، في صراعه مع الإخوان، وتجد جذورها في رغبة السادات تجفيف فكرة المقاومة ومنابعها مع اتفاقية كامب ديفيد. وإبداعاتها التي نظمها صفوت الشريف وزير إعلام مبارك ورجاله لم تزل تلهم الإعلام؛ تضخيم مخاطر مزعومة أو حقيقية، ونسبها لقوى توصف بأنها ليست وطنية ولا ضمان لولائها. شيطنة كان من اليسير أن تتحد والصورة التقليدية السائدة عن البدوي في ثقافتنا العامة.

المسكوت عنه في سردية الأمن يتعلق بفهمنا الخريطة الإثنية والديموغرافية لسيناء، فمعلومة بسيطة عن نسبة الفلسطينيين ممن يعيشون فيها وحتما ستغير التفسير السائد. ومعرفة تاريخ العائلات والعشائر البدوية الممتدة عبر الحدود وكيف أن أفرادها يحملون أوراقا مختلطة بين مصرية وفلسطينية تشيف لهذا الفهم. وربما يضيف أكثر أن نرى كيف تغلغلت الفكرة السلفية في الثقافة هناك. ولا يود المرء أن يقول إن التعمية العمدية لثقافة المقاومة في سيناء، هي جزء من نواتج الشيطنة القديمة وحملاتها المتجددة، فلم يعد أحد يعرف حجم تقدير فعل المقاومة وبروزه في الحياة العامة لأهل سيناء، وكونه سمة وجود لأهل هذه المنطقة ممن عاينوا تهديدات إسرائيل اليومية، وبما تكلفوه من ضريبة الدم، وقصف طال ذويهم على الجبهة الأخرى وأحيانا ما كان يطالهم هم أنفسهم.

ضمن هذا الخطاب لا ينتهي اللمز بالبدو، الذي تجده في أشهر افتراءات الإعلام الأمني، من عينة سعي حماس إلى إقامة دولة بديلة للفلسطينين في سيناء، ونتاجه تزييف وعي قطاع عريض من المصريين، فصاروا يصدقون أن هذه الأراضي عند بابنا الشرقيليست إلا أرضا يسكنها رحل من بدو فلسطين، وحان موعد إخراجهم!

فيما لا تكف السردية الأمنية عن وضع سلسلة القناعات الزائفة، ولا تقنع تفسيراتها إلا بنسب أعمال السلفية الجهادية وغيرها من التنظيمات في سيناء إلى حماس ومن ثم الإخوان. يبدو أن حاجتنا للفهم ترتبط بفهم خارطة القوى في فلسطين، والوصول لبعض التفاصيل عن حقائق الشقاق بل والقتال بين حماس وتلك التنظيمات الجهادية التي تتهم بأنها تفعل في سيناء لصالح حماس أفاعليها.

الإخلاء أو لماذا يستثمرون في الكراهية؟

هل بقي شيء نقوله عن مأساة البدوي، أم علينا أن نعيد إثارة القصة المملة عن التنمية المؤجلة في سيناء، وكيف كان“الأمن” والأمن وحده سببا لتأجيلها؟ المتتبع لعثرات التنمية في سيناء، من جنوبها لوسطها لشمالها، ستقف أمامه كمية مهولة من حجج الأمن التي ظلت تعزز مصالح لوبي إسرائيل، و”بيزنسه” في سيناء. وتدفع فقط جهة بناء المعايش المؤقتة، والمدن السياحية، وبعض البؤر التي تحيط بمناطق الصناعات الاستخراجية المحتكرة، دون بناء استيطان دائم لأهل سيناء سواء من البدو أو غيرهم، وتوفير الخدمات العامة لهم، بطول وعرض شبه الجزيرة.

إن من يعرف تطور هذه المدن القليلة التي جرى فيها تكثيف العمران منذ جلاء الإسرائيليين، سيدرك أن هذه التنمية لم تكن من أجل إنماء أحوال أهل البادية السيناوية، ولا جعلت من أهدافها توفير العيش الكريم لهمسيدرك كيف يظل أهل السلطة في مصر يراوحون دون مراجعة بين تصورين جاهلين؛الأول: يرى البدوي معنيا بأن يجد معاشه بعيدا عن الدولة، تهريبا، ومخدرات، وسلاحا، وتجارات ممنوعة، ومن ثم لا حاجة لتوفير الدولة مخصصات له؛ والتصور الثاني: يكرس صورة البدوي “النمرود”، الذي لو وفرت له التنمية وعناصر الاستقرار فرضا، فإنه سيرفضها، كونه مخلصا لقدره كمرتحل أبدي، يرفض الاستكانة والاستقرار والتوطن. مقولتان جاهلتان، كانتا “نقوطا” مدفوعا في عرس الدم في كرم القواديس، أفضتا إلى جعل التنمية في سيناء أكذوبة لا تستر حقيقة الإهمال الكبير لحق السيناوي في الحياة والكرامة والعدل.

ليس بمستغرب أن تؤول لعبة الشيطنة إلى تمرير خيار “الترانسفير“؛ بالإخلاء والتهجير قسرا؛ الذي تجرمه الاتفاقيات الدولية ويحظره الدستور المصري، ويُتفق عالميا على كونه صورة من صور التطهير العرقي؛ بما يحمله من قتل الثقافة والتاريخ وتقويض فرص ضحاياه في المعاش والاستقرار. هل من المستغرب أن التجربة القاسية لأهل النوبة، رغم ما حمله تهجيرهم وقتها من مبررات لقيت القبول الواسع، هل من المستغرب أنها لا تلهم السلطة الراهنة التي صارت أبعد عن العقل ومجتمعا عجز أن يتعلم من ذاكرته الحية؟

الإخلاء من نتاج ميراث الشيطنة والاستثمار الطويل في تحويل سيناء لملف أمني بحت، ويعلو به صوت جوقة المحللين الاستراتيجيين (وجلهم من القيادات الأمنية والاستخبارية والعسكرية السابقة).

المتتبع لجذور خطة الإخلاء سيعرف أنهم يدلسون؛ فلا يوجد منطق مفهوم لإخلاء الشريط الحدودي، وكأنه حل جديد عاجل لتلافي ما يحدث من هجمات. ربما يراهنون على ضعف ذاكرتنا، حين يخفون معلومات أعلنت من قبل عن كون هذا المخطط توصية إسرائيلية قديمة، لإخلاء قطاع واسع على الحدود في منطقة “د” المتاخمة لغزة بالخصوص. دخول معامل أمن إسرائيل في معادلة الأزمة في سيناء ضروري ويتكامل مع مأساة التنمية المجهضة فيها. الإملاء الإسرائيلي تطور في صورة خطة عمل لسلاح المهندسين العسكريين الأمريكي عندما اضطلع بعملية تأمين الحدود بين غزة ومصر 2008، وباشر وضع طريقة للتخلص من الأنفاق.

من العبث مع هذه المعلومات مناقشة منطق الترانسفير كحل ناجع يمكن به الحد من تواجد عصابات ومجموعات مسلحة وسط السكان. هل يتصور عاقل أنه في مواجهة مع مجموعات غير معروفة، سيخرج الأهالي ليبقى المسلحون؟

حتى لو أقررنا بكونأعمال التهجير ليست قسرية، وسايرنا منطق الأكذوبة التي تقول إن السلطة مضطرة، وأن الإخلاء، هو نتاج لقوة قهرية، وملجأ أخير من أجل حماية الناس وسلامتهم. فما جرى من بعد القرار أنه لم يتم أي قدر من التفاوض ولا التعويض، وبدا الأمر حال تنفيذه كسياسة قمعية، وليست كاستراتيجية تأمين؛ تداولت تقارير عدة عن قيام السلطات العسكرية بتفجير المنازل، وإنزال العقاب الجماعي بالقرى التي يحدث فيها الاشتباكات، علاوة على انفلاتات في التعامل من قبل الضباط وعناصر الأمن بحق السكان من البدو.

القراءة المدققة في ملف التنمية في سيناء تستتبع النظر إليها كجزء من معضلات اتفاقية السلام، وإجحاف شروط جلاء الإسرائيليين عن شبه الجزيرة، بجعل إنمائها مجرد ديباجة أقرب إلى الأساطير، وإبدال أولويات الإنماء والاستقرار بنموذج تنموي قوامه الخفة السكانية، يجعل الأرض خالية قدر المستطاع.

هل ثمة ملامح فيما نقول لسردية بديلة لسردية الأمن؟ هل هناك ما يثبت هذا النسيان العمدي لسيناء، والاستثمار في الكراهية بها، الذي تفضحه مقارنة مخصصات تمويل تنمية سيناء بغيرها من الأماكن، وتأمل بنود التخصيص في الموازنة العامة للخدمات في سيناء، لفهم ماهي بالضبط أولويات التنمية العاجلة هناك، وهل بالفعل تشير لفهم ضرورات انقاذ الوضع المتردي إنسانيا هناك.

هل من مخرج؟

حملة الجيش في سيناء عمياء بلا جدال، والاستمرار في نهجها يكفل بذاته المزيد من القبول بالجماعات المسلحة بديلا عن دولة غاشمة، ويهيئ محاضن شعبية لها، دافعا بالمزيد من الشباب المحبط لدائرة إغواء خطاب نضالي براق.والأمر مناكدة، فبحسب من أعرفهم من أهل سيناء، يفضل الأهالي الجهاديين، ليس لتدينهم، وإنما بمنطق غائي مفاده أن “عدو عدوي صديقي“ وإن لم يتبنوا الفكر الجهادي.

الحل ربما يكمن في عدة أولويات أرى التنبه لها كفيلا بوضع الدولة على الطريق الصحيح في تعاملها مع سيناء:

 

  • ضرورة المراجعة الاستراتيجية، فالافتقار لرؤية سياسية للحل في سيناء، وتوارث منظومة مبارك الأمنية القائمة على المراوحة بين التضييق والحصار وسياسة الأرض المحروقة.السياسة الأمنية الغشوم هذه في بيئة بدوية هي الاستثمار الأول في تجنيد العناصر السلفية والمتدينة وتحويلها لعناصر تحمل الفكر الجهادي التكفيري. منح الدليل على تجدد المظلومية اليومية للبدوي هو قوة الدفع الأولى التي تنتهي بالمتدينين والموتورين ممن أوغرت صدورهم الجرائم التي ارتكبتها قوى الأمن والجيش على مدى العامين الماضيين، وفيما قبلهما منذ نهايات التسعينيات في سيناء.
  • ضرورة تبني حل شامل سياسي الطابع، يكون الأمن والتعامل العسكري جزءا منه وليس قاصرا عليه. على النطاق السياسي لابد من التنبه لعوامل تشكل محاضن السلفية الجهادية في سيناء، وتحولها لمنطقة جذب للهاربين، ممن يجدون درع حماية شعبيا. وفي هذا الخصوص ثمة مدى من التدخلات السياسية واسع، يبدأ من وضع استراتيجية قومية حقيقية لتنمية سيناء، على غير شاكلة ما كان ينتج خطابيا لزوم الاهتمام الإعلامي المصاحب لاحتفالات أكتوبر في عهد المخلوع مبارك. أما على الصعيد الأمني فإنه لا سبيل لمواجهة أساليب حرب العصابات بقوى نظامية، فثمة ضرورة لإعادة النظر في طرق وتكتيكات التدخل العسكري والأمني، يقوم على وضع قواعد صارمة، واحترام حكم القانون، واستهداف البشر بالحماية، والعمل على وقف نزيف الدم المستمر منذ فترة طويلة.
  • البدء بالمخابرات، فواضح أن ثمة خللا استخباريا يضرب بأعمال التخطيط والتوجيه والسيطرة التي تقوم بها القوات المسلحة، وهو الذي يظهره تكرار الحوادث ذاتها في المنطقة المحدودة التي تقع فيها العمليات بين الشريط الساحلي لطريق العريش رفح، والشريط الحدودي بين رفح ومعبر.
  • التثنية بالإعلام، لوقف عاجل لهذا المقدار من التجهيل حول ما يجري من سيناء، ومنع أعمال التعتيم الإعلامي المكثفة، المخلوطة بممارسات فاشية وتخوين، بما يرغم الباحثين والمحللين ينكصون عن فحص أوجه القصور في التعامل مع المشكل في سيناء،
  • الرقابة على قطاع الدفاع والأمن ليست ترفا بحال، لكن يبدو أنه ما من سبيل في ظل بنية الدولة السلطوية الراهنة لأي صورة من صور الرقابة، فالأمر بات يدور داخل دائرة ضيقة تضم بعض قيادات وتدور مداولاتها المغلقة بين غرف قصر الاتحادية في مصر الجديدة والقيادة العامة للقوات المسلحة في منشية البكري ومقر المخابرات في كوبري القبة. دون تنبه لأهمية المراجعة والرقابة ستظل الأخطاء ذاتها تنتج نفسها.

ودون هذا، سيظل المقموعون المستضعفون في سيناء ضحايا لعمى مزدوج، بين سلطة تمضي في غي قوتها العسكرية، وبلا أفق سياسي، وعمى مجموعات تكفيرية تنتشي بقدرتها على إلحاق الأذى بعدوها (السلطة) دون أن يمنح الفريقان أدنى اعتبار لحق الناس في الحياة والأمن. هكذا يستحيل المشهد في سيناء إلى مأساة دموية، لا يعرف أحد فيم تجري وكيف وبأي نهج وبأي ثمن.

لتحميل الدراسة كاملة

اضغط هنا للتحميل

عبده موسى
عبده موسى
الباحث بالمركز العربي للبحوث ودراسات السياسة