النّص وترجماته انطلاقًا مِن "تمهيد" ڤالتر بنيامين

النّص وترجماته انطلاقًا مِن "تمهيد" ڤالتر بنيامين

محاولة لتحديد طبيعة علاقة النّص بترجماته، واعتمدنا هنا تمهيد فالتر بنيامين، فسعينا إلى أن نبيّن أنَّ هناك علاقة ديْن متبادلة بين الأصل وترجماته. كلّ من النَّصّين مُحتاج إلى الآخر. فمثلما تتطلع اللغة النّاقلة إلى الانفتاح على لغة أخرى، فإنَّ الأصل يحتاج إلى أن يُهاجر ويتنفس هواءً جديدًا. فالنَّصّ لا يحيا ويستمر في الحياة إلا بفضل ترجماته، بل إنه لا يكشف عن طاقاته التأويلية إلا عن طريق تلك الترجمات وبفضلها. لا بدّ وأن يجرنا هذا الدَّيْن المُتبادل إلى العودة إلى الأصل حينما نكون في الترجمات، وإلى الخروج إلى الترجمات حينما نكون في النّص. فكما لو أنَّ المعاني هي في لعبة الاختلاف بين النَّصّوص وبين اللّغات.

ما طبيعة هذه العلاقة؟ ما طبيعة العلاقة التي تربط النّص بترجمته، أو ترجماته على الأصح؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال انطلاقًا من نص ڤالتر بنيامين "مهمة المترجم" la tâche du traducteur أو، تحديدًا، من خلال نقلهذا النّص إلى اللغة الفرنسيّة والقراءات التي أُعطيتْ له داخل هذه اللغة1. هذا النّص اتخذ، إلى جانب ما كتبه غُوته وشلايرماخر وهومبلُت وهَايدغر، أهميةً تأسيسيةً قصوى في الفكر الألمانيّ، وهو في أصله، كما نعلم، تمهيد استهل به بنيامين ترجمته الألمانيّة لقصائد بودلير "اللَّوحات الباريزيّة".

في مقالته "أبراج بابل" يتوقف جاك دريدا طويلًا عند معاني عنوان هذا "التمهيد" الذي ربما نتسرع هنا بنقله إلى عبارة "مهمة المترجم". يقول دريدا: "إنَّ هذا العنوان (في لغته الأصلية) يشير ابتداءً من لفظه الأول la tâche إلى المهمة التي أناطنا الآخر بها، كما يشير إلى الالتزام والواجب والديْن والمسئولية ... إنَّ المترجم مَدين ... ومهمته أن يسدّد ما في عهدته"2. إلا أنَّ صاحب التفكيك سرعان ما يُدقّق عبارته لينزع عَنْ المسئولية كلّ طابع أخلاقي فيؤكد أنّ المدين في هذه الحالة ليس هو المترجم. فالديْن لا يُلزم المترجم إزاء المؤلف، وإنما يلزم نصًّا إزاء آخر، ولغةً أمام أخرى. لكن من الذي يدين للآخر، أو، على الأصح، ما الذي يُدين للآخر؟

سيجيب المتسرعون من غير تردّد أن الأبناء مدينون لآبائهم، والفروع لأصولها، والترجمات للنّص الأصلي. ولكن بما أن النّص يطلب ترجمته ويحنّ إليها، بما أن لديه كما يقول بنيامين، "حنينًا إلى ما يتمم لغته ويكمل نقصها"3، فهو أيضا يكون مدينًا لترجماته. فالأصل، كما يقول دريدا:"هو أول مدين، أول مطالَب، إنه يأخذ في التعبير عن حاجته إلى الترجمة وفي التباكي من أجلها"4. ذلك أن لديه رغبةً في الخروج، بنيامين يقول رغبة في الحياة، في النمو والتزايد5، رغبة في البقاء survie. فكما لو أن النّص يشيخ في لغته فيشتاق إلى أن يرحل ويهاجر ويُكتب من جديد، ويتلبّس لغةً أخرى ويتنفس هواءً آخر، وكما لو أنّ كلّ لغة تُصاب في عزلتها، بنوع من الضمور، وتظل ضعيفةً مشلولة الحركة، مُتوقفةً عن النمو6. "بفضل الترجمة، يكتب دريدا شارحًا نص التمهيد، أعني بفضل هذا التكامل اللغوي الذي تزوّد عن طريقه لغةٌ الأخرى بما يعوزها، وهي تزودها به بكيفية متناسقة، فإنَّ من شأن هذا الالتقاء croisement، من شأن هذا التلاقي بين اللغات أن يضمن نمو اللغات وتزايدها"7.

على هذا النحو، ليست علاقة الأصل بالترجمة علاقةَ أساسي بثانوي، ومخدوم بخادم، ولا هي حتى علاقة أصل بنسخة كما يقال في عبارات يُشتمُّ منها إعلاء الأصل على حساب النّسخ. فالترجمات ليست بالضرورة تدهورًا وسقطةً تبتعد فيها النُّسخ عن أصولها. إنّها اغتناء، بل إنها مجازفة قد تُسفر عمّا لم يكن في الحسبان8. لذا يستخلص دريدا: "إن العمل لا يعيش مدة أطول بفضل ترجماته، بل مدة أطول، وفي حلة أحسن mieux، إنه يحيا فوق مستوى مؤلفه"9. بفضل الترجمات إذًا فإن النّص لا يبقى ويدوم فحسب، لا ينمو ويتزايد فحسب، وإنما يبقى ويرقى survit10.

كيف نفهم هذا الرقيّ، هذا الارتقاء؟ غنيّ عن البيان أن الأمر لا يتعلق، ولا يمكن أن يتعلق بارتقاء قيميّ بمقتضاه تكون الترجمات أكثر من أصولها جودةً، وأرقى قيمةً أدبيةً وأعمق بعدًا فكريًّا. المقصود بطبيعة الحال بعبارة au dessus des moyens: فوق طاقة المؤلف. المعنى نفسه يعبّر عنه أمبرتو إيكو في حديثه عما كان يخالجه عندما يقرأ نصوصه مترجمةً، يقول: "كنت أشعر أن النّص يكشف، في حضن لغة أخرى، عن طاقات تأويلية ظلت غائبةً عني، كما كنت أشعر أن بإمكان الترجمة أن ترقى به في بعض الأحيان"11.

لعل أهم ما في اعتراف إيكو هو حديثه عن "الطاقات التأويلية" التي ينطوي عليها النّص والتي تظل غائبةً عن صاحبه مغمورةً في لغته، والتي لا تنكشف إلا في حُضن لغة أخرى، ولا تظهر إلا إذا لبست حلةً جديدةً وكُتبت من جديد. ربما كان هذا هو المعنى ذاته الذي يعنيه دريدا حينما يقول إن النّص عندما يُنقل إلى لغات أخرى فإنه يحيا "فوق مستوى مؤلفه"، فوق مستواه يعني أساسًا خارج رقابته وخارج سلطته autorité  من حيث هو مؤلف وauteur، فوق مستواه يعني أنه لا يملك أمامه حيلة. ذلك أن المؤلِّف سرعان ما يتبيّن عند كل ترجمة أنه عاجز عن بسط سلطته على النّص لحصر معانيه وضبطها، والتحكم في المتلقي مهما تنوعت مشاربه اللغوية والثّقافيّة. وهو يتأكد من ذلك كلما حاول هو نفسه نقل أحد نصوصه إلى لغة أخرى، إذ سرعان ما يصطدم بالصعوبات التي يطرحها نصّه، فيتبيّن اشتراك ألفاظه، ولبس معانيه، وتعدّد تأويلاته. والغريب أنه يحسّ أنه لم يكن ليتبين هذه الصعوبات، ولا ليدرك اشتراك ألفاظ نصه ولُبس معانيه لولا سعيه إلى نقله إلى لغة أخرى. فكأن اللغة المترجِمة هي التي تسلّط الأضواء على النّص الأصلي، فتكشف، حتى للمؤلف نفسه، ما تضمره اللغة الأصلية، بل إنها تبين في بعض الأحيان عن نواقص الأصل. فكأن كشف خصائص الأصل لم يكن له أن يتم لولا الترجمة، وكأن اللغة، بفعل الترجمة، لا تكتفي بأن "تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها"، كما كتب جاحظنا12، وإنما تسعى أيضا لأن "تفضحها".

إننا هنا أمام عملية أشبه ما تكون بتحليل نفسي للنص une psychanalyse du texte. ذلك أن الترجمة ترسّب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل المعاني في اختلاف عن ذاتها، لا تحضر إلا مبتعدةً عنها مباينةً لها، خصوصًا عندما تكون مرغمةً على التنقل بين الأحقاب والتجوّل بين اللغات. لا ترمي الترجمة إذًا إلى إلغاء الاختلاف وإنما إلى توظيفه ورعايته. من هذه الزاوية لا ينبغي أن يُنظر إليها أساسًا كعملية لخلق القرابة، وإنما كفعالية لتكريس الغرابة13. وأكبر الزَّلات التي يمكن للمترجم أن يقترفها هي أن يعمل على تجميد الحالة التي توجد عليها لغته بفعل الصّدفة، عوض أن يُخضعها للدفع العنيف الذي يتأتّى من اللغة الأجنبية. وفي هذا الصَّدد ينبهنا موريس بلانشو إلى أهمية النّص الذي يقتبسه بنيامين في تمهيده عن أحد المنظّرين الألمان وهو رودولف بانفيتز الذي كتب: "إن أحسن ترجماتنا الألمانية تنطلق من مبدأ خاطئ، وهي تزعم إضفاء الطابع الألماني على السنسكريتية والإغريقية والإنجليزية، بدل العكس، أي إعطاء الألمانية طابعًا سنسكريتيًّا وإغريقيًّا وإنجليزيًّا"14. هاهنا تغدو الأمانة رهينةً بابتعاد الترجمة عن لغة الأصل وخيانتها لها بمعنى من المعاني. ولكي نبقى في السياق الألماني، لا بأس أن نسوق هنا ما كان هايدغر كتبه تقديمًا لإحدى ترجمات نصوصه إلى الفرنسية: "بفعل الترجمة يجد الفكر نفسه وقد تقمّص روح لغة أخرى. وبذلك فهو يتعرّض لتحوّل لا محيد عنه. إلا أن هذا التحوّل قد يغدو خصبًا لأنه يبرز الطرح الأساس للسؤال في ضوء نور جديد"15. كأن الفيلسوف الألماني، الذي كتب هذه المقدمة سنة 1932 لترجمة الجزء الأول من أسئلته، يتنبّأ هنا بما سيعرفه فكره في ترجماته الفرنسية، أقول الترجمات، لأن نصوص هايدغر ما فتئت تترجم وتعاد ترجمتها.

نستطيع إذًا أن نعطي جوابًا ابتدائيًّا عن السؤال الذي يطرحه عنوان هذه المداخلة فنقول: بما أن المترجم يراوده دائمًا في نظر بنيامين حلم يزعم أنَّ اللغات جميعها تُشير إلى الواقع نفسه بأنحاء متباينة كما لو كان فعل الترجمة يُحيل إلى لُغةٍ عليا لعلها الانسجام بين كل تلك الأنحاء، فإنَّ التَّرجمات تضمن القرابة الأصلية بين اللغات وتحقّق التآلف بينها، ومن ثمَّة فإنَّ علاقة النّص بترجماته تغدو علاقة ألفة، أوعلاقة وفاء، رغم ما يقال عن الترجمة من عدم الوفاء. ذلك أن عند النسخة حنينًا لا ينفك لأن تعود إلى أصلها وتواجهه كي ترى نفسها في مرآته. ورغم ذلك، فإنَّ ما يطبع النُّسخة هو إحساسها الملازم أنها لم تف الأصل حقه. بهذا المعنى فكل ترجمة، مهما كانت قيمتها، فهي دومًا استشكالية. ربما لأجل ذلك يصرّ بنيامين على التشديد على أن الترجمة لا تغني عن الأصل. لا يعني ذلك أنها تظل دومًا دونه، وإنما أنها لا يمكن أن تكون من دونه. إنها ما تفتأ تعلق به. ورغم ذلك، فإن كانت الترجمات تعلق بالأصل ولا تقدر أن تحيا من دونه، فلأنه هو أيضا في أمسِّ الحاجة إليها، على الأقل لكي تشخِّص أمراضه، وتكشف عن أعراضها. هذه العلاقة المتبادلة، هذا الديْن المتبادل، هذه الحاجة المتبادلة لا بدّ وأن تجرنا، شئنا أم أبينا، إلى العودة إلى الأصل حينما نكون في الترجمات، وإلى الخروج إلى الترجمات حينما نكون في النّص. فكما لو أن المعاني هي في حركة الانتقال translation، وفي لعبة الاختلاف بين النَّصّوص وبين اللغات.

على هذا النحو تبدو المنشورات مزدوجة اللغة، وهذا، كما نعلم، تقليد ألماني بالأساس، حيث يسكن النّص المترجِم بجوار الأصل، وحيث يتواجه النَّصان ويقف أحدهما أمام الآخر ويرى نفسه في مرآته، تبدو هذه المنشورات، لا نشرًا للنص ولا نشرًا لترجمته، وإنما نشرًا لحركة انتقال لا تنتهي بين "أصل" ونسخة. فهي إذًا لا تتوجّه نحو قارئ لا يحسن اللغة الأصل، ولا نحو ذاك الذي يجهلها، وإنما نحو قارئ يُفترض فيه لا أقول إتقان، وإنما على الأقل استعمال لغتين يكون مدعوًّا لأن يقرأ النّص بينهما، قارئ لا ينشغل بمدى تطابق النسخة مع الأصل، وإنما قارئ مهموم بإذكاء حدة الاختلاف حتى بين ما بدا متطابقًا، قارئ غير مولع بخلق القرابة، وإنما بتكريس الغرابة، قارئ يبذل جهده لأن يولّد نصًّا ثالثًا بعقد قران بين النَّصّين وبين اللغتين. لعل هذا الولع بتوليد الإشكالات، وإحداث البون، هو الذي سمح لصاحب مهمةالمترجم ألا يقتصر على القول إن النسخة لا تستغني عن أصلها، وإنما أن يذهب حتى التأكيد بأن الأصل ذاته لا يُغني عن ترجماته. إنه لا يكتفي بالقول إن كل كتابة في لغة أخرى تحنّ إلى الكتابة الأولى، وإنما إن كل كتابة تتجدّد في غربتها وبـغربتها16. كل كتابة في لغة أخرى هي كتابة أخرى. في هذا المعنى كتب أمبرتو إيكو: "عندما أقرأ ترجمة شاعر كبير لقصيدة شاعر كبير آخر، فلأنني أعرف الأصل وأريد أن أعرف كيف آلت القصيدة عند الشاعر المترجِم"17. أو لنقل نحن، وفي سياق تأويل نص بنيامين الذي نحن بصدده: لأنني أعرف الأصل، وأريد أن أعرف كيف ارتقى.


الهوامش

1 Walter Benjamin, „La tâche du traducteur", in ŒuvresI, Gallimard, „Folio-Essais", Paris, 2000.

2 Jacques Derrida, „Des tours de Babel", in Psyché- Inventions de l’autre, éd. Galilée, Paris, 1987, p. 211.

هذا النص هو في أصله تعليق على تمهيد بنيامين، وقد نشر سنة 1985 ضمن:

Difference in translation, éd. Joseph Graham, Cornell University Press

3 "La tâche du traducteur", op. cit., p. 257.

4 المرجع سابق الذكر.

5 Ibid, pp247-249.

6راجع ما يقوله فالتر بنيامين بهذا الصدد:

Walter Benjamin, „La tâche du traducteur, „, op. cit., pp. 247-248.

7 Jacques Derrida, „Des tours de Babel", op. cit., p. 213.

8 انظر بهذا الصدد:

Jacques Derrida, „Lettre à un ami japonais", in Psyché- Inventions de l’autre, Galilée, 1987.

9 Jacques Derrida, „Des tours de Babel", op cité, p. 213.

10 Derrida, Survivre/Journal de bord, pp. 147-149.

11 U. Eco, Dire presque la même chose, Expériences de traduction, Grasset, Tr. française, 2006, p. 14.

12 أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، ج 1، تحقيق عبد السلام هارون، ط 3، بيروت 1969 ،ص76.

13 انظر بهذا الصدد:

Maurice Blanchot L’amitié, Gallimard, Paris, 1971 pp. 70-71.

14 Walter Benjamin, „La tâche du traducteur", op cité, p. 260.

15 Martin Heidegger, Questions I et II, Gallimard, coll. "Tel", Paris, 1990, p. 10.

16انظر بنيامين:

Walter Benjamin, „La tâche du traducteur, op cité, p. 250.

17 U. Eco, Dire presque la même chose, op cité, p. 21.

عبد السلام بن عبد العالي
عبد السلام بن عبد العالي
مفكر مغربي، باحث في قضايا الفلسفة والفكر والثقافة