عامّيّة ألمانيّة على لسان فلّاح مصري؟ ملاحظات حول نقل لهجات عامّيّة مِن لُغة إلى أخرى

في إحدى مقابلاته العديدة، والتي عبّر خلالها أستاذ الرواية العربية نجيب محفوظ، عن آرائه في اللُّغةِ والأدب والثقافة، وصف اللَّهجة أو اللَّهجات العامية على أنها مرض ومن غير المقبول استخدامها في الأدب. يُستغرب مثل هذا الرأي، بل مثل هذا الحكم، على العامّيّات التي هي على كلّ حال من الوسائل الوحيدة للتواصل اليومي في العالم العربي حيث اللّغة الفصحى غير مُستخدَمة.
لن أتدخل في المناقشات غير الأدبيّة وغير اللَّسانية حول العلاقة بين الفصحى والعامّيّة، وأقصد تلك المناقشات حول الوحدة العربيّة، ودور العربيّة الفصحى كوسيلة لتقويتها أو – من الجهة المعاكسة – ضعف هذه الوحدة نتيجة استخدام اللَّهجات العامّيّة. تدور مثل هذه المناقشات في المجال السياسي والثقافي ولا تغيّر أمر العلاقة بين الفصحى واللَّهجات ودورها في الأعمال الأدبيّة في شيء.
والحكم الصارم الذي تفوّه به نجيب محفوظ حول استخدام العامّيّة في الكتابات الأدبيّة غريب أو مستغرب لبعض الأسباب:
أوّلًا: لقد سعى بعض النُّقّاد والمتخصّصين في الأدب العربيّ واللُّغة العربيّة لسنوات وما زالوا يسعون لتحليل أعمال نجيب محفوظ باحثين فيها عن أثر من آثار العامّيّة المصريّة فعثروا على بعض الكلمات المحليّة القاهريّة أو على عبارات مقتبَسة من لغة الناس اليوميّة وهي أحيانًا مختفية وراء صياغة فصحويّة خالصة. وقد أشار د. ساسّون صوميخ، قبل خمسة وأربعين عامًا، إلى هذه الظاهرة في كتابه المشهور عن كتابات نجيب محفوظ وإيقاعاتها المتحوّلة[1].
ثانيًا: تثير ملاحظة نجيب محفوظ الدهشة أيضًا لأنّ كثيرًا من المؤلّفين العرب ومنهم من هو أكبر من نجيب محفوظ سنًّا أو أصغر على وجه الخصوص، يستخدمون اليوم في كتاباتهم الأدبية اللَّهجات المِنطقية في الحوارات على وجه الخصوص. ثم أنه نادرًا ما نجد كتابًا كاملًا أو فصولًا فيه مكتوبة بعامّيّة من العامّيّات العربيّة المختلفة. لنأخذ على سبيل المثال مذكّرات طالب بعثة للمثقّف المصري لويس عوض ورواية لعبة للنسيان للناقد والروائي المغربي محمّد برادة. يوجد بينهما فرق مهم في توظيفهما للهجة المحلية. أمّا لويس عوض فقد كتب يوميّاته برمّتها باللّهجة المصرية، في حين أن محمّد برّادة يستفيد من الازدواج اللُّغويّ لتفرقة أشخاصه أو بالأحرى لتمييز واحد من هؤلاء عن الآخرين لغويًّا.
منذ أن بدأت عمليًّا بترجمة الروايات والقصص العربية إلى لُغتي الأصلية وهي الألمانية، وكان هذا قبل أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، واجهت، في هذه الأعمال التي قمت بترجمتها، كثيرًا من الحوارات المكتوبة باللهجات المحلية كليًّا أم جزئيًّا. ليس هناك أي استثناء من رواية الصبّار للروائية الفلسطينية سحر خليفة وحتّى رواية حياة معلّقة لعاطف أبو سيف، وهو من قطاع غزة، وما بينهما من روايات عديدة من مصر ولبنان والعراق وغيرها التي قمت بترجمتها.
كان من أوّل ما قمت بترجمته في بداية الثمانينيات الروايات الأولى للكاتبة الفلسطينية المشهورة سَحَر خليفة، خاصّة في روايتها عبّاد الشمس، حيث واجهت مشاكل هائلةً في فهم بعض الحوارات التي تجري بين امرأتين من الطبقة الفقيرة فدفعني ذلك إلى إشراك صديق فلسطيني في الترجمة.
أما آخر ما ترجمته فقد كانت رواية فرانكنشتاين في بغداد للكاتب العراقي أحمد سعداوي الذي هو أيضًا، مثل كثير من زملائه العرب، يستخدم اللهجات العامّيّة للتعبير عن جو معيّن للمكان ولتمييز الطبقات الاجتماعية. ومن الطبيعي أنه لرسم جو معين للمكان وللتمييز بين الطبقات الاجتماعية فإن الكاتب يقوم بالاستعانة بالعامية. وأعترف أنّ تحليلي هذا لدوافع الكتّاب الفنية مبسّط إلى حدٍّ ما.
إنَّ الكُتَّاب العرب الذين يستخدمون العامّيّة في أعمالهم يعتقدون أنّ شخصياتهم تصبح أكثر إقناعًا عندما تتكلّم اللُّغة المحكية أو نوعًا من أنواعها، ويعني هذا أنّ اللُّغة التي تتكلّمها شخصيّة روائيّة ما لها وظيفة محددة وهي وصف هذه الشخصيّة مكانيًّا واجتماعيًّا.
على سبيل المثال: من يعيش في بغداد عليه – حسب هذا التفكير– أن يتكلّم العامّيّة البغداديّة كما هو في فرانكنشتاين في بغداد لأحمد سعداوي، ومن يعيش في قطاع غزّة من المتوقّع أنّه يتكلّم العامّيّة الفلسطينية أو الغزّاويّة كما في رواية حياة معلّقة لعاطف أبو سيف والتي انتهيت من ترجمتها مُؤخرًا. لكنّ استخدام العامّيّة في الأدب النثري ليس سهلًا إلى هذا الحدّ؛ لأنّ الكتّاب يلعبون بوضع الازدواج اللُّغويّ في العالم العربي، ففيه يتكلّم الناس فيمن بينهم بلهجة من اللَّهجات أو بنوع من الأنواع، أقصد تدرجات اللَّهجة. إذن، إنّ حوارًا بين شخصين يتكلّم أحدهما بالفصيحة ويستخدم الآخر اللَّهجة العامّيّة مثلًا ليس عرضًا للواقع اللُّغويّ، ولكنّه وصف للفرق الاجتماعي بين المتكلّميْن.
ويعني هذا أنّه في كلتا الروايتين المذكورتيْن – وأيضًا في كلّ النصوص التي توجد فيها شخصيّات متكلّمة بالعامّيّة –فإن الوضع اللُّغوي المعروض لا يتطابق مع الواقع اللُّغوي الموجود في المنطقة لأنه، في الحقيقة، كلّ شخص يتكلّم العامّيّة في كل الحالات اليومية. بَيْدَ أنّ بعض الشخصيّات الأدبيّة لا يتكلّم عامّيّةً حقيقيّة باستمرار، وهو نادر، بينما لا يستخدم بعضُهم الآخر في كلامهم إلا كلمات وعبارات من العامّيّة الخاصّة بهم. وتوجد مجموعة ثالثة لا يتكلّمون إلا بالفصحى.
فنتيجة كلّ هذا أنّ الكُتّاب المستخدمين العامّيّة في كتاباتهم –جانب الفصحى المستعملة للحكي- لا يستهدفون انتماء شخصيّاتهم إلى منطقة محدّدة فقط ولكن إلى طبقة اجتماعيّة معيّنة أيضًا. ولكي ننقل – نحن المترجمين – هذه المعلومات أعني انتماء الشخصيّات الروائيّة إلى مناطق محدّدة وطبقات اجتماعيّة معيّنة. إذن، علينا إيجاد حلول وهي برأيي غير استخدام اللَّهجة العامّيّة في اللغة، والسبب هو أن:
1- موقف العامّيّة في ألمانيا مختلف عنها في العالم العربي كلّ الاختلاف.
2- وهذا أكثر أهمّيّة وهو أن العامّيّة تضع الشخص الذي يتكلّمها في مكان معيّن مقصور –في النصّ الأصلي وفي النصّ المترجَم أيضًا.
فلنلقِ نظرة قصيرة جدًّا إلى حالة اللَّهجة العامّيّة في المنطقة المتكلّمة باللغة الألمانيّة:
فنجد أنَّ الوضع اللُّغويّ في سويسرا (القسم المتكلم بالألمانية) يشابه الوضع العربي حيث إن الناس هناك يتكلمون لهجة عامّيّة بينما يستخدمون اللُّغة الفصحى للكتابة -إذا جاز التعبير-، لكنّ هذه الفصحى الألمانية لها منطقة مرجعية وهي المنطقة حول مدينة "هانوفر" في شمال ألمانيا. وطبعًا هي أيضًا لغة الكتابة الرسمية في ألمانية كلها، وهي اليوم أيضًا، إلى حدٍّ بعيدٍ، اللُّغة المتكلمة حتّى لو بلكنات متعدّدة. أما اللهجات العامّيّة المنطقية أو المحلية فهي في تراجع ومن ثم الاختفاء، ولا يتبقى منها سوى نبرات مناطقيّة. ليس هناك اليوم أي كاتب ألماني أو سويسري أو نمساوي يكتب رواياته أو حواراته، جزئيًّا أو كليًّا، بالعامّيّة[2].
إذن، الفصحى الألمانيّة، وأعني اللغة الألمانيّة "الرسميّة"، ليست لغةً مكتوبة فحسب ولكنّها تصبح أيضًا، أكثر فأكثر، اللغة المتكلَّمة في الحياة اليوميّة على كلّ المستويات، من الأعلى إلى الأسفل. لذلك فانّ استخدامها على لسان شخصيّة أدبيّة ما، من أيّة طبقة كانت، وذلك للتعبير عن أمور سامية أم بذيئة لا يُعتبر شيئًا غريبًا. وهذه اللغة – الفصحى الألمانيّة – في الوقت ذاته محايدة محلّيًّا أو مناطقيًّا بما يكفي ليبقى الفلّاح المصري فلّاحًا مصريًّا أو ليبقى العامل البغدادي عاملًا بغداديًّا، رغم أنّ كلّ واحد منهما يفقد عامّيّته.
والخلاصة أنّني لا أعتقد أنّ نقل عامّيّة إلى عامّيّة أخرى أو بشكل أكثر تحديدًا من عامّيّة عربيّة إلى عامّيّة ألمانيّة لا ينصف الشخصيّات الأدبيّة العربيّة وبالتالي لا يفي الأدب العربي حقَّه. وهذا ليس لأنّ الوضع اللّغوي في العالم العربي مختلف عنه في ألمانيا، بل لأني أعتقد أنّ اللهجة تثبِّت مكلّمها في مكان معيّن. وأنا كمترجم أجد وظيفتي في نقل النصوص العربيّة إلى نصّ ألماني وليس تحويل العالم الموصوف في هذه النصوص إلى عالم ألماني.
[1]Sasson Somekh, The Changing Rhythm. A Study of Najīb Mahfūz’s Novels (Leiden, Brill, 1973).
[2] المحرر: إذًا أستاذنا العزيز، هِيرْ فَانْدرِش .. لماذا تظنُ على العربيّة أن يكون لها ما للألمانيّة؛ بأن تسعى لجعل كتاباتها العلميّة والأدبيّة باللّغة الفصيحة بدلًا من التشظي والتشرذم الذي تفضي إليه – بلا شك - الكتابة بالعاميات اللامتناهية؟!
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة