التعريف بالأدب الأندلسيّ في إنجلترا في القرن السَّابع عشر - ترجمات رسالة حي بن يقظان أنموذجًا

التعريف بالأدب الأندلسيّ في إنجلترا في القرن السَّابع عشر - ترجمات رسالة حي بن يقظان أنموذجًا

كان تحقيق النّصوص العربيّة وترجمتها واحدةً من الوسائل التي اتكأ عليها المستشرقون الأوروبيون في خوضهم ميدان الاستشراق، وكانت متون تلك النّصوص عزيزةً أولَ أمرها، حتَّى إذا استوى للاستشراق سوقُه، ازدهر جمعُ المخطوطات العربيّة بطرق عديدة، واجتهد المهتمون بها لاقتنائها ولإضافتها إلى المكتبات الجامعيّة الناشئة في أوروبا آنذاك، وإغناء حلقات البحث العلميّ بنشرها ودراستها.

 وعندما أطل القرن السَّابع عشر، الذي يعدُّ عصرًا ذهبيًّا للدراسات العربيّة في أوروبّا، طفق عددٌ من المستشرقين يرتحلون إلى البلاد العربيّة مشرقًا ومغربًا؛ ليتعلموا اللغة العربيّة ويجمعوا المخطوطات العربيّة.

وكانت إنجلترا في القرن السَّابع عشر قد شهدت كغيرها من مناطق غرب القارة الأوروبيّة اهتمامًا خاصًا ومتناميًا بالدّراسات العربيّة والإسلاميّة لأسباب عديدة، لا متسع هنا لتفصيلها، وبرز من بين رواد الدّراسات العربيّة فيها المستشرق إدوارد بوكوك الأب Edward Pococke (ت1691)، أستاذ العربيّة والعبريّة في جامعة أكسفورد، الذي شدَّ الرحال إلى المشرق وأمضى سنوات عدةً يعدُّ عصرًا ذهبيًّا مقيمًا هناك في حلب ثمَّ في القسطنطينية، يتعلم اللغة العربيّة ويجمع المخطوطات المتنوعة المكتوبة بها وباللّغات الشَّرقيّة الأخرى كالتركيّة والفارسيّة ... لمكتبة جامعة أكسفورد ولمكتبته الخاصة.

وكانت رسالةحي بن يقظان لابن طفيل الأندلسيّ (ت581هـ/1185م) من بين المخطوطات العربيّة التي اقتناها بوكوك، وحملها مِن حلب ضمن ما حمله معه من هناك إلى بلاده، وهي تعد أول النّصوص الأندلسيّة التي نُشرت باللغة العربيّة في إنجلترا، وبقيت النّص الأندلسيّ الوحيد الذي اعتنى به أحدُ المستشرقين الإنجليز، حتَّى قام وليم رايت William Wright (ت1889) بتحقيق رحلة ابن جبير الأندلسيّ (ت614هـ/1217م) سنة 1852.

 كما أن رسالةحي بن يقظان تحلُّ في المرتبة التالية بعد القرآن الكريم وألف ليلة وليلة من حيث إنها أكثر الكتب العربيّة القديمة نشرًا وترجمةً في أوروبّا.

ولهذا تأتي هذه الورقة لتتبُّع بدايات التعريف بالأدب الأندلسيّ وترجمته والاهتمام به في إنجلترا منذ القرن السَّابع عشر، حتَّى غدت الدّراساتُ الأندلسيّة اليوم حقلًا معرفيًّا حقيقًا بالإشادة، وحقلًا له مكانته واعتباره في بريطانيا؛ فقد نُشرت رسالة حي بن يقظان لأول مرة في إنجلترا سنة 1671 بالنص العربيّ مرفقًا بترجمة لاتينية، ثمَّ توالت ترجماتٌ ثلاث إلى الإنجليزية في غضون ثلاثين سنةً من نشرها للمرة الأولى.

ولم يكن نشرها آنذاك إلا لأن موضوعَها وافق هوىً في نفوس المهتمين بها، فكان لها أثرُها في مجتمع المثقفين في إنجلترا وفي مجتمع الجمهور العام من القرّاء.

تمهيد في أولية دراسة الأدب الأندلسيّ في إنجلترا:

لم يكن التراث الحضاري الذي خلَّفه أهل الأندلس طوال القرون التي عمّروا فيها ذلك الصقع القصي غرب العالم الإسلاميّ- لم يكن ذا أهمية خاصة لدى النخبة المهتمة بالشرق في القارة الأوروبيّة ممن يسمّوْن المستشرقين.

فقد نمت ظاهرة الاستشراق ومعها اهتمامات المستشرقين تجاه اللغة العربيّة بخطوات وئيدة تحكمها عوامل أسهمت في تشكيلها واتجاهاتها على النحو الذي نعرفه عند التأريخ لتلك الظاهرة. وظل الاهتمام باللغة العربيّة يتصل بالأسباب الدّينية والعلميّة أول الأمر، ثمَّ بالمصالح التجارية والسياسية.

ونتيجةً للاتجاهات الفيلولوجية في دراسة اللغات الشرقية فإن اهتمامات المستشرقين منذ ازدهار الدّراسات العربيّة في أوروبّا في القرن السَّابع عشر، لم تتجاوز في معظمها جمع المخطوطات الشرقية وتحقيق النّصوص العربيّة وترجمتها.

وعلينا أن ننتظر حتَّى القرن التاسع عشر من أجل أن نظفر بالدّراسات التي جعلت الأندلس وتراثها الحضاري غرضًا للدراسة وموضوعًا للبحث العلميّ في دور العلم والجامعات الأوروبيّة.

لم تكن أنظار المستشرقين عندما بدأوا جمع المخطوطات تتجه إلى غير الشرق مصدرًا لها، ورغم ذلك كانت قد وصلت المكتبات الأوروبيّة عدد من الآثار الأندلسيّة المخطوطة، لكنها ظلت بحاجة إلى جهد علمي موجَّه للعناية بالتراث الأندلسيّ على وجه التخصيص.

ولم يكن التراث الأندلسيّ يقع في اهتمامات المستشرقين في إنجلترا قبل القرن التاسع عشر على الرغم من نشر رسالة حي بن يقظان لأول مرة هناك في القرن السَّابع عشر، ولا غرابة في ذلك؛ فإن الدّراسات الأندلسيّة لم تنل اهتمامًا خاصًا في عموم البلدان الأوروبيّة هي الأخرى، بل ظلت الآثار الأندلسيّة قليلةً وتُدرس في الدّائرة الواسعة لدراسة اللغة العربيّة.

وإذا ما أردنا أن نقترح نقطة البدء أو التَّحوّل في تاريخ الدّراسات الأندلسيّة، فيمكن القول إن العقود الأخيرة في القرن الثامن عشر هي تلك النقطة؛ عندما نهض الراهب اللبناني ميخائيل الغزيري (ت1791) لفهرسة مخطوطات مكتبة دير الإسكوريال قرب مدريد، بناءً على طلبٍ خاص من الملك الإسباني، وكان نتيجة عمله نشر فهرس لمخطوطات المكتبة التي كانت مهملةً، وكان بعنوان المكتبة العربيّة الإسبانية في الإسكوريال1، وذلك بين الأعوام 1760-1770، الذي لم يكتفِ فيه بسرد عناوين المخطوطات ومؤلفيها، بل صدَّره بمقدمة طويلة - تحدث فيها عن قيمة هذه المكتبة وأهمية المخطوطات التي تضمها، إلى جانب لمحة موجزة عن الكتب ومؤلفيها2- فتحت الطريق أمام الباحثين للاهتمام بهذا التراث الخاص ودراسته، إذ كان الاهتمام بالتراث الأندلسيّ في إسبانيا نفسها معدومًا بعد سقوط غرناطة؛ وهي مهد هذا التراث؛ لأن إسبانيا أرادت لنفسها ميلادًا جديدًا وتاريخًا لا يشوبه وجود المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية. كما لم يهتم المستعربون الإسبان فيها بدراسة هذا التراث إلا بعد نشر الغزيري هذا الفهرس، الذي أرسى لبنة الأساس للالتفات إلى هذا التراث الخاص، وكان له أثره في انبثاق الاهتمام بالإرث الأندلسيّ ونشأة حقل الدّراسات الأندلسيّة.

وتجدر الإشارة في موضوع تاريخ الدّراسات الأندلسيّة في إنجلترا إلى أن أول نص مأخوذ من كتابٍ أندلسي كان فقرةً أوردها المستشرق إدوارد بوكوك الأب في كتابه لمع من أخبار العرب3، وتلك الفقرة مقتبسة من كتاب طبقات الأمم لصاعد الأندلسيّ (ت462هـ)4. ويُذكر أن كتاب بوكوك هذا، له مكانته في تاريخ الطباعة العربيّة؛ إذ كان أول كتاب ظهرت فيه الحروف العربيّة من مطبعة جامعة أكسفورد وكان ذلك سنة 16495.

وبعد نشر فهرس الغزيري للمخطوطات العربيّة في الإسكوريال، بدأ الوعي بقيمة التراث الأندلسيّ وقيمة المصادر العربيّة الإسلاميّة التي أرَّخت للوجود العربيّ الإسلاميّ في إسبانيا، مع ما رافق ذلك من نمو المكتبات الجامعيّة الأوروبيّة، وازدياد عدد المخطوطات التي وصلت إلى أوروبّا، فأصبحت الظروف مواتيةً منذ مطلع القرن التاسع عشر كي نلحظ اهتمامًا يوجَّه للإرث الأندلسيّ بين المستشرقين في بعض الدّول الأوروبيّة.

ولكن ذلك لا ينقص من ريادة إنجلترا في مجال الدّراسات الأندلسيّة؛ وذلك لأنها كانت السبّاقة في نشر أول نصٍّ أندلسي باللغة العربيّة وهو رسالة حي بن يقظان.

وهكذا كانت أولى ثمار نشر فهرس الغزيري لمخطوطات مكتبة الإسكوريال أن بدأ البحث في الإرث الأندلسيّ وإماطة اللّثام عن هذه الحقبة التاريخية التي كانت جزءًا من تاريخ إسبانيا التي حاولت بشتى السبل أن تقطع صلتها به منذ سقوط غرناطة. فظهر لأول مرة كتاب في تاريخ الأندلس للمستعرب الإسباني خوسيه كوندي (ت1820) بعنوان تاريخ السيادة العربيّة في إسبانيا6، الذي ظهر بين 1810-1812، معتمدًا فيه المصادر العربيّة التي كان جرى التعتيم عليها من قبل وظلت بعيدةً عن القارئ الأوروبي لفهم تاريخ إسبانيا، وقد تُرجم هذا الكتاب للإنجليزية بين الأعوام 1854-1855.

تلاه ظهور كتاب الهولندي رينهارت دوزي (ت1883) تاريخ مسلمي إسبانيا حتَّى غزو المرابطين7،معتمدًا المصادر العربيّة الأندلسيّة الموجودة في مكتبات أوروبّا مما لم تصل إليه أيدي الباحثين من قبل، وهو منشور بالفرنسية سنة 1861.

وبين هذيْن العمليْن كان لرائد الاستعراب الإسباني الحديث باسكال دي جاينجوس(ت1897) إسهامات مهمة في التعريف بالتراث الأندلسيّ، فقد أقام في إنجلترا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر واشتغل مدة في مكتبة المتحف البريطاني ونشر في لندن بين الأعوام 1840-1843م أول ترجمة إنجليزية لكتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري (ت1041هـ/1631م) عن نسخة مخطوطة في مكتبة المتحف البريطاني، لكن هذه الترجمة لم تكن كاملةً للكتاب؛ لأنه أعاد فيه ترتيب النفح وحذف بعض أجزاء منه وأضاف تعليقات وشروحات؛ كي يقدّم تاريخًا للأندلس بعنوان تاريخ الأسر الإسلاميّة الحاكمة في الأندلس8.

ولكن يبدو أنه حتَّى مع وجود جاينجوس في لندن وترجمته الإنجليزية للنفح لم يكن له أثر يُذكر في القارئ الإنجليزي، أو في توجيه المستشرقين في إنجلترا نحو الدّراسات الأندلسيّة.

وربما يعود ذلك إلى أن دراسة التراث الأندلسيّ بقيت جزءًا من الدّراسات الشرقية عامةً، يضاف إلى ذلك المصالح والغايات الاستعمارية التي طالت الظاهرة الاستشراقية، وبلغت أوجها في القرن التاسع عشر بين إنجلترا ومستعمراتها في الشرق العربيّ والهند.

وفي منتصف القرن التاسع عشر اهتم المستشرق الإنجليزي وليم رايت (ت1899) -الذي أصبح أستاذ العربيّة في الكلية الجامعيّة بلندن- بتحقيق النص العربيّ لرحلة ابن جبير الأندلسيّ ونشره مع مقدمة للتحقيق باللغة الإنجليزية سنة 1852 في ليدن حيث كان يعدّ أطروحته للدكتوراه في جامعتها بإشراف أستاذه المهتم بالدّراسات الأندلسيّة رينهارت دوزي، ورحلة ابن جبير تُعد النص العربيّ الأندلسيّ الثاني بعد حي بن يقظان الذي يعتني به أحد المستشرقين من إنجلترا.

ثمَّ عمل رايت مع اثنين من المستشرقين تحت إشراف أستاذه على تحقيقٍ جديد لكتاب نفح الطيب نُشر في ليدن أيضًا بين 1855-1860، مع مقدمة باللغة الفرنسية.

ويلاحظ أنه مع نهاية القرن التاسع عشر كان عدد من المصادر العربيّة الأندلسيّة المخطوطة والمطبوعة قد وصل المكتبات في إنجلترا؛ ذلك أننا إذا ما استعرضنا مثلًا طبعة عام 1894 لفهرس المكتبة البريطانية فإننا سنلاحظ فيها عددًا من المصادر الأندلسيّة9، ولكن مع توفر هذه المصادر في إنجلترا فإن ذلك لم يؤدِّ إلى عناية بالأدب الأندلسيّ لدى المستشرقين هناك، بل ظلت اهتماماتهم تتجه صوب الشرق العربيّ والهند.

وهكذا كان الاهتمام بالأدب الأندلسيّ في إنجلترا منذ القرن السَّابع عشر ضئيلًا إن لم نقل شبه معدوم؛ لأن مجال الدّراسات الأندلسيّة لم يكن قد نشأ بعد ولا اتضحت حقول اختصاصاته، كما لم تكن الأندلس بتراثها الحضاري تلفت انتباه أحد من مستشرقي أوروبّا الذين جاءت بعض بحوثهم وأعمالهم حول التراث الأندلسيّ واقعةً ضمن الدّائرة الواسعة للدراسات الشرقية.

 كما لم يكن للأندلس عناية خاصة بها حتَّى بروز اهتمام الهولندي دوزي مطلع القرن التاسع عشر، ثمَّ نشوء مدرسة الاستعراب الإسباني التي حصرت اهتماماتها الشرقية بدراسة التراث الحضاري الأندلسيّ؛ في محاولة منها لخلق اتجاه جديد يرى في الحقبة الأندلسيّة قطعةً من تاريخ إسبانيا تستحق الدّراسة.

وهذا لا ينفي أن المشرق الإسلاميّ هو كذلك كان بعيدًا عن الاهتمام بالتراث الأندلسيّ بعد سقوط غرناطة -إذ يعد نفح الطيب آخر الكتب الجامعة التي أُلِّفت عن التراث الأندلسيّ قبل أن يحل القرن العشرون- وبعيدًا أكثر عن التراث الفلسفي؛ ففي المشرق كان أثر فلاسفة المغرب الإسلاميّ ضئيلًا جدًّا؛ بسبب محنة الحروب الصليبية آنذاك وما سمي"حرب الاسترداد" في إسبانيا، وفي تلك الأوقات ينصرف الناس عن المحاكمات العقلية إلى الاطمئنان بالدّين10.

كما أن قصة حي بن يقظان على وجه التحديد لم تلق أيضا اهتمامًا في الشرق العربيّ نفسه إلا متأخرًا، بعد أن راجت في أوروبّا وذاعت ذيوعًا واسعًا لأسباب عديدة. ويشير إلى ذلك بوضوح مقال في ثلاثة أجزاء للأب فرديناند توتل اليسوعي (ت1977) نُشر في مجلة المشرق سنة 1931م عن حي بن يقظان يعرّف فيه بهذه القصة الفلسفية ويوضّح دوافعه لكتابة هذا المقال بقوله:

"ولما كان أمره [يقصد حي بن يقظان] مهملًا، ولم يطبع في سوريا ولبنان قط، وطبعاته في مصر وفي الأستانة دون ما يُرجى لمثل هذا الكتاب، رأينا أن نخصَّه بمقال عسى أن يمهد السبيل إلى طبعه في بلادنا"11.

والطَّبعات العربيّة التي يقصدها كاتب المقال هي: طبعتان نُشرتا في الأستانة سنة 1882، وطبعتان نشرتا في القاهرة في السنة نفسها: واحدة عن مطبعة الوطن وأخرى عن مطبعة وادي النيل، وطبعة ثالثة نُشرت فيها سنة 1921 عن المطبعة الخيرية.

ويبدو أن الاهتمام بحي بن يقظان في عالمنا العربيّ أصبح أكثر جديةً بعد نشر ليون جوتييه (ت1949) لها وترجمتها إلى الفرنسية سنة 1900، وهي الطبعة التي يصفها عبد الرحمن بدوي12 بأنها "لا تزال حتَّى الآن أفضل طبعة" وهي أول نشرة نقدية للنص في 123صفحة للنص العربيّ و122 صفحة للترجمة الفرنسية و مقدمة في 16صفحة.

وصول حي بن يقظان إلى إنجلترا

من حلب إلى أكسفورد

كانت رسالة حي بن يقظان واحدةً من المخطوطات العربيّة التي اشتراها بوكوك الأب من حلب، في أثناء إقامته هناك، واعظًا مرافقًا لموظفي شركة المشرق بين الأعوام 1630-1635، ثمَّ عاملًا في السفارة الإنجليزية في القسطنطينية بين 1637-1641، وقد أنفق وقته هناك في تعلّم اللغة العربيّة وإتقانها وفي جمع المخطوطات الشرقية.

كان بوكوك يشتري المخطوطات العربيّة لمكتبة جامعة أكسفورد، لدعم الدّراسات الشرقية، ومنها العربيّة الصاعدة آنذاك في أوروبّا، وكانت له مجموعته الخاصة كذلك من المخطوطات الشرقية، التي بلغت نحو 400 مجلد، منها 270 بالعربيّة، وقد اشترتها مكتبة بودليانا في أكسفورد سنة 1692 بعد وفاته13.

وتجدر الإشارة إلى أن بوكوك الأب قد بدأ بترجمة رسالة حي بن يقظان إلى الإنجليزية، لكنه توقف عن ذلك وقدّمها بعد ذلك بسنوات لابنه وسمِيِّه بوكوك الابن (ت1726) كي يقوم بتحقيقها وترجمتها؛ ولم يكن ذلك لأنها من التراث الأندلسيّ، وإنما لأسباب تتصل بمضمونها من جهة وتتصل بالجو الثقافي والقارئ الإنجليزي من جهة أخرى.

تحقيق الرسالة وترجمتها للمرة الأولى

يتضح من سيرة حياة بوكوك الأب جهوده الكبيرة في الدّراسات الشرقية في أكسفورد؛ فقد كان أول من تولى كرسي العربيّة فيها بعد تأسيسه في 1636، وعمل على تحقيق عدد من النّصوص العربيّة ونشرها، وكانت له جهود في إدخال المؤلفات العربيّة الأدبية غير الدّينية إلى بلاده؛ إذ لم يعد يقتصر على جمع المخطوطات المتصلة بالدّين الإسلاميّ فحسب، بل تعداها إلى مؤلفات تاريخية وأدبية متنوعة.

وكان بوكوك قد بدأ بترجمة إنجليزية لرسالة حي بن يقظان منذ سنة 1645 ولكنه لم يكملها ولم يأتِ على ذكرها مطلقًا في مقدمته التي كتبها فيما بعد للترجمة اللاتينية التي قام بها ابنه سنة1671.

تقديم حي بن يقظان للقارئ الإنجليزي في القرن السَّابع عشر

فما السر وراء اهتمام بوكوك الابن بنشر حي بن يقظان وترجمتها- إذا لم يكن اهتمامًا بالتراث الأندلسيّ؟!

إن وراء ذلك تفسير بسيط: إذ يعود الاهتمام بحي بن يقظان إلى مضمونها الفلسفي والفكري الذي وافق هوىً في أوروبّا في ذلك الوقت من القرن السَّابع عشر، بشيوع الأفكار الطبيعية والرغبة في الخروج على قيود الكنيسة وتعاليمها، وإعلاء شأن العقل ودعوات الإصلاح والتنوير التي عمَّت القارة، فالاهتمام بها كان نابعًا من اتصالها بفكرة العلاقة بين العقل والدّين إذ وصف ابن طفيل فكرة الدّين الطبيعي قبل أن يعرفها الأوروبيون، كما أن فكرة الإنسان المتطور ذاتيًّا لم تكن مقبولةً في الفكر الأوروبي آنذاك.

"وما رسالة حي بن يقظان كلها إلا وسيلة على إقامة الدّليل على أن الإنسان ذا الفطرة الفائقة يستطيع أن يصل بلا مُعين سوى عقله إلى إدراك كل ما في الوجود من أبسط مظاهره المادية إلى أسمى مراتبه الروحية"14.

وهذه الفكرة المثيرة هي التي كانت وراء الاهتمام بتلك القصة الفلسفية التي كتبها ابن طفيل، بعيدًا عن أي ذكر للأندلس أو اهتمام بإرثها الحضاري فلسفيًّا أو أدبيًّا.

وما لا يعرفه كثيرون من معاصري بوكوك الأب الذي دفع ابنه للعمل على إخراج حي بن يقظان إلى نور النشر والطباعة -ما لا يعرفه هؤلاء- هو أن بوكوك الأب نفسه قد بدأ بترجمة إنجليزية لهذه الرسالة، قبل سنوات من صدور ترجمة ابنه اللاتينية؛ فقد وجد الباحث هولت في أوراق بوكوك الأب المحفوظة في مكتبة بودليانا، بضع أوراق تضم ترجمة إنجليزية غير كاملة لـحي بن يقظان تحمل تاريخ 10/7/1645، لكنه يقول إن بوكوك لم يكشف لأحد عن هذه الترجمة، كما أنه لم يُشِر إليها مطلقًا عندما كتب مقدمة الكتاب لابنه"15.

وقد يعود إخفاء بوكوك أو تأجيله لعمله على ترجمة القصة للإنجليزية، إلى أن الوقت لم يكن ملائمًا لإظهار تلك الأفكار بسبب مزاج النخبة الجمهورية في إنجلترا في ذلك الوقت، مع أن ذلك لا يفسر لماذا لم ينشر بوكوك الترجمة بعد الإصلاح الذي تم في إنجلترا في 1660؟

"إن طبيعة رسالة حي بن يقظان ربما تفسر لماذا لم تنشر الترجمة منتصف القرن السَّابع عشر [عندما بدأ بوكوك الأب ترجمتها] في حين أصبح لها قرّاء كثيرون في نهاية ذلك القرن. فهي تتناول موضوع إصلاح النفس واكتساب المعرفة حين يعيش المرء مع الطبيعة، وهو موضوع يتفق مع الفكر الغربي نهاية القرن السَّابع عشر والقرن الثامن عشر، ويتفق مع رأي أولئك الذين أخذوا يؤمنون بنوع من الدّيانة الطبيعية التي لا تخضع للمنظمات الكنسية"16.

ولهذا عندما أصبح الوقت ملائمًا لاستقبال أفكار رسالة حي بن يقظان، أشار الأب وكان عمره يقترب من السبعين، لابنه أو دفَعَه للعمل على نشرها وترجمتها، لأنه أراد لابنه الشاب أن يعزز بهذا العمل مكانته وسمعته العلميّة في جامعة أكسفورد بتقديم عملٍ يشهد له على كفاءته في الدّراسات العربيّة، ورغبةً من بوكوك الأب في تقديم دعمه الكبير لابنه فإنه قدَّم للكتاب بمقدمةٍ بقلمه، جعلت الكتاب يُنسَب خطأً في كثير من الأحيان للأب لا لابنه، وهما يشتركان في الاسم واللقب نفسه: إدوارد بوكوك. وربما كان هذا اللبس والثقة بالسمعة العلميّة لبوكوك الأب، هو وراء انتشار القصة بترجمتها اللاتينية وشيوعها بين القرّاء حتَّى تعددت ترجماتها الأوروبيّة17.

وبذلك قدّم بوكوك الابن لأول مرة نصًّا أندلسيًّا متميزًا للقارئ والمثقف في إنجلترا وأوروبّا، على الرغم من أنه فعل ذلك دون أن يدرك أنها إرثٌ أندلسي؛ لأن الأندلس والوجود الإسلاميّ في إسبانيا لم يكن مسألة ذات نظر في ذلك الوقت في إنجلترا وغيرها. وكل ما في الأمر أن حي بن يقظان كان واحدة من المخطوطات العربيّة ضمن ما جلبه والده من مخطوطات عربية وشرقية كان يجمعها في أثناء إقامته بحلب.

أثر التّرجمة اللاتينية سنة 1671 لحي بن يقظان:

كان نشر بوكوك الابن لرسالة حي بن يقظان وترجمتها إلى اللاتينية في إنجلترا في 1671م قد جعلها معروفةً في بلدان القارة الأوروبيّة، ولم تكن هذه الترجمة هي الأولى للرسالة التي ظهرت في أوروبّا. إذ سبقتها ترجمة عبرية في القرن الرابع عشر مجهولة المترجم ظهرت في سنة 1349م بعد وفاة ابن طفيل (ت581هـ/1185م) بنحو 170 عامًا، لكنها كانت مرفقةً بشروحات وتعليقات موسعةً كتبها الطبيب والفيلسوف موسى النربوني (ت1362م) ويقال إن الترجمة العبرية نقلت إلى اللاتينية بعد ذلك في القرن الخامس عشر18. ولم يكن لهذه الترجمة صدى يذكر في النخبة المُتعلِّمة أو المُثقفة، في حين كان للترجمة اللاتينية التي قدّمها بوكوك الابن في القرن السَّابع عشر أثرها الواسع والسريع في القرّاء في إنجلترا وخارجها، إذ ظهرت بعد نشرها بقليل ترجمات مُتعددة باللغات الأوروبيّة المحلية، ولم تجتذب هذه الترجمات المستشرقين وطلاب الفلسفة فقط إنما تجاوزتهم إلى القارئ العادي .. ما أكسَبَ الكتاب رواجًا وشعبيةً جعَلَتْهُ ثالث كتاب بعد القرآن الكريم وألف ليلة وليلة - من حيث نشره وترجمته في أوروبّا19.

"ومنذ منتصف القرن التاسع عشر والدّراسات حولها [حي بن يقظان] في أوروبّا تتوالى في غير انقطاع وبمختلف اللغات حتَّى الآن، حتَّى ليمكن أن نقرر في اطمئنان أن قصة حي بن يقظان، كانت أوفر الكتب العربيّة حظًّا من التقدير والعناية والتأثير في أوروبّا في العصر الحديث"20.

ومما يشير بوضوح إلى هذا التقدير والتأثير أنه قد صدرت لحي بن يقظان ثلاث ترجمات إنجليزية في بضعة عقود بعد نشرها لأول مرة، ويكفي للدلالة على هذا أن حي بن يقظان بطبعاتها المتعددة في إنجلترا، تصدَّرت قائمة كتب القصص والروايات الإنجليزية المطبوعة بين الأعوام 1643-1739 21، كما ظهرت لها نحو إحدى عشرة طبعةً بمختلف اللغات الأوروبيّة بين الأعوام 1671-1783 22.

وهذه الطبعات والترجمات المتعددة تشير إلى أهمية هذا العمل لدى القارئ العام والمتخصص في أوروبّا. "وقد نالت هذه النقول أو الترجمات شيوعًا كثيرًا، فإن بعضها طبع مرتين أو ثلاثًا. من أجل ذلك كله لا نستغرب إذا كانت هذه الرسالة قد تركت أثرًا كبيرًا في تاريخ الفكر الإنساني"23، وهو ما حصل حقًا!

ويرى أحد الباحثين أن الترجمات المتعددة للقصة هي:

"احتفاء كبير بابن طفيل، وأن هذه الترجمات الكثيرة التي عرفها النص العربيّ لتدل على هذا الإصرار الغريب لجعل نص ابن طفيل نصًّا أوروبيًّا بامتياز، حتَّى أن العناوين التي صاغها بعضهم لرسالة ابن طفيل تحمل بصمات تأويليةً واضحةً تدل على رغبة واضحة في الامتلاك الثقافي والحضاري للنص"24.

وسواء اتفقنا مع الباحث أم اختلفنا، ومهما يكن من أمر كامن وراء الاهتمام الكبير بحي بن يقظان، فإن لها ميزة على ما سبقها من المتون العربيّة التي لقيت الاهتمام في أوروبّا؛ فقد كانت الأعمال والبحوث الشرقية سابقًا محصورةً عادةً ضمن دوائر ضيقة من المستشرقين "لكن ثمَّة موضوعات تسربت من الدّائرة الاستشراقية إلى الحياة الثقافية الأوروبيّة فكان لها في التداخل الثقافي شأن"25. ومنها بلا شك قصة حي بن يقظان للفيلسوف الأندلسيّ ابن طفيل التي كان أثرها واضحًا على كثير من المفكرين والعلماء الأوروبيين، حتَّى إنه يصح القول:

"إن معظم المبدعين الذي أسسوا لتجاوز عصر الظلام في أوروبّا كانوا على صلةٍ ما بإسبانية، إما عن طريق السفر والعيش فيها مدة من الزمن، أو عن طريق الاطلاع على الكتب التي نُشرت مترجمةً من العربيّة إلى اللاتينية، ثمَّ انتشرت في سائر أوروبّا"26.

فلا يُنكَر أثرها مثلًا في كتابات المفكر والفيلسوف جون لوك (ت1704) الذي كان تلميذًا لبوكوك الأب في أكسفورد، وهناك من يرى أثر حي بن يقظان في أعمال مفكرين أوروبيين آخرين، بل إن د. سمر العطار في كتابها الجذور الحيويّة لعصر التنوير في أوروبّا: تأثير ابن طفيل على الفكر الغربي الحديث27 ترى أنه:

"يمكن اعتبار روايته حي بني يقظان من أهم الكتب التي بشّرت بالثورة الصناعية، وأفكارها مبثوثة بشكل أو بآخر، وبدرجات مختلفة، في كتب جون لوك، آيزك نيوتن، إيمانيوول كانت، جان جاك روسو، فولتير وآخرين. وهذا يؤكد تبنّي مفكّري أوروبّا في عصر التنوير قيم حي بن يقظان حول المساواة، والحرية، والتسامح ممهّدين بذلك للثورة الفرنسية"28.

وهذا ينبغي ألا يفاجئنا لأن التنوير نفسه يحتفل بالعقل البشري ويُعلي من شأنه فوق كل شأن.

أهمية حي بن يقظان

فلماذا يمكن لقصة إسلامية مضى على تأليفها نحو500 عام، أن تجذب أنظار النخبة المثقفة وطبقة القرّاء في أوروبّا القرن السَّابع عشر وصورة الإسلام وأهله آنذاك هي صورة قاتمة؟!

للوهلة الأولى يبدو أن العنوان الذي اختاره بوكوك ليعبر عن القصة في ترجمتها اللاتينية كان جذّابًا للقرّاء ومغريًا للمهتمين، فقد ظهرت الترجمة بعنوان Philosophus autodidactus أي الفيلسوف المُعلِّم نفسه، وبقيت فكرة العنوان ذاتها كامنةً في معظم العناوين التي صدرت بها ترجمات حي بن يقظان في إنجلترا، وهي تشير إلى منحى جديد في التربية بالنظر إلى منزلةٍ للعقل وللتجربة الشَّخصيّة مُغايرة لما كانت عليه من قبل.

فالعنوان الذي اختاره المترجم بوكوك الابن يحيل إلى أن حي بن يقظان قد تعلم مبادئ الحياة المادية والروحية بنفسه دون الحاجة إلى مساعدة من غيره، أي أن العقل البشري قادر بنفسه على الوصول إلى الله واكتشاف الطبيعة والكون، وهي فكرة كانت رائجةً في ذلك الوقت.

هذا إذا أخذنا في الحسبان أن أسئلة المعرفة كانت هي أسئلة أوروبّا في القرن السَّابع عشر، وكانت مثار جدل واسع وصراع بين تيارين: أحدهما يؤمن بالعقل مصدرًا للمعرفة، وآخر يجعل الحواس والخبرة الذاتية مصدر المعارف الإنسانية بقيامها على الملاحظة والتجريب. وهذا يعني أن المُناخ الفكري في ذلك الوقت كان ملائمًا لتقبُّل أفكار القصة؛

 "وذلك للصلة الوثيقة بين المشاكل التي كان يعالجها ابن طفيل وبين معضلات ذلك العصر... فقد كان القرن السَّابع عشر بدايةً للنهضة العلميّة في إنكلترا حيث ازدهرت الطريقة العلميّة الباكونية المعتمدة على الملاحظة الدّقيقة والتجربة والاختبار المستمريْن ... ونتيجة لتلك النزعة العلميّة ظهرت الدّعوة إلى الدّين الطبيعي (Deisim) وبالتالي الصراع بين مناصري تلك البدعة ومناصري الدّين المُنْــزَل"29.

وهذه الفكرة كانت مهمةً للمفكرين الأوروبيين في القرنين السَّابع عشر والثامن عشر، ويشير ذلك إلى أن قصة حي بن يقظان قصة عالمية: تعكس براعتها وقدرتها على الانسجام مع التيارات الفكرية التي سادت بعد قرون من تأليفها، وأنها كانت ما تزال قادرةً على التعبير عن أفكارٍ حية حتَّى بعد مرور تلك القرون، وهي الأفكار التي ما زالت إلى اليوم قادرةً على أن تكون أسئلة لها حضورها في الحياة الفكرية والثقافية في كثير من المجتمعات شرقًا وغربًا، وهي في جوهرها قد ترشدنا إلى أن نغبط نعمة العقل ونعمة الإيمان!

بيد أن العنوان وحده قد لا يكون كافيًا لتفسير كيف يمكن لعمل إسلامي -من القرون الوسطى- أن يحظى بالحفاوة في أوروبّا ويصبح ضمن أعلى المبيعات خلال مدة وجيزة؟!

وهذا التساؤل يطرحه كثير من الباحثين المهتمين بالقصة؛ فبعضهم يرى صعوبة التوفيق بين ذلك الانتشار الواسع والتأثير الكبير لحي بن يقظان في المفكرين الأوروبيين، في وقتٍ واجهت فيه الدّراسات العربيّة تراجعًا واضحًا وتضاءل الاهتمام بها أواخر القرن السَّابع عشر في مختلف بلدان غرب أوروبّا30.

بينما يرى غيره أن هذه الشهرة لهذا الأثر العربيّ ما كانت لتكون لو لم يتسرب من العتمة داخل أسوار الدّائرة الاستشراقية إلى نور الحياة الثقافية والعقلية خارج هذه الأسوار31، وهو يفسر ذلك بقوله:

"إن قرّاء الإنجليزية مثل قرّاء اللاتينية، قد أقبلوا على قصة حي بن يقظان لفضائلها اللاهوتية والدّينية والأخلاقية بعيدًا عن مناقشة مدى أهميتها الأدبية وأصالة أسلوبها وصيغتها الرمزية وتكامل تركيبها الفلسفي، وما كان لهذا ليكون غير ذلك لأنه لم تكن لواحد من الذين تعهدوا ترجمة وتقييم حي بن يقظان في تلك العهود اهتمامات أدبية أو هموم فلسفية من طراز يؤهلهم إلى نظرة نقدية لامعة"32.

ومع هذا القصور فقد أصبحت حي بن يقظان نمطًا يُحتذى وصار لها دور في نشأة الرواية الإنجليزية.

ومن جانب آخر يمكن تفسير شعبية قصة حي بن يقظان التي وضعها فيلسوف مسلم وانتشارها في مجتمع مسيحي متعصب وفق رؤية مختلفة؛ ترى بأنّ ذلك يكمن في:

" أن حي بن يقظان يتميز بخلوه من أفكار معادية لأي ملة كانت، ولولا استشهاد الكاتب ببعض الآيات القرآنية الكريمة ومعرفة القارئ السابقة بالدّيانة التي يدين بها -ما كان من السهل على القارئ التعرف على ماهية العقيدة التي يؤمن بها"33.

"على أنما جذب القرّاء على المستويات كافة إلى الكتاب هو القالب الذي صَبَّ فيه ابن طفيل آراءه وعقائده، وليست تلك الآراء والعقائد وحدها، فالكتاب يخاطب عقل القارئ ولكنه في الوقت نفسه يحلّق في عالم الخيال أيضا... ولقد كانت هذه الحكايات من الموضوعات المفضلة والشائعة تلك الحقبة من الزمن نظرًا لتوسع الاستكشافات البحرية وازدياد حوادث تحطم السفن"34.

وفي الغالب فإن شغف القرّاء بالقصة يعود إلى تغير أذواق القرّاء في ذلك العصر، فقد أصبح الأدب الكلاسيكي مهجورًا بينما كان الأدب الشرقي أقرب بروحه إلى الأدب الشعبي الإنجليزي وبالتالي إلى قلوب القرّاء35.

في حين ينظر آخر إلى أن "احتفاء الغرب بالأدب قبل الرومانسية خلق ما يسمى بـ"الكتاب المقدّس العلماني" حسب تعبير نورثب فراي، وهو ما جعل الأدب يحل محل الدّين، وهذا يفسّر أحسن ما يكون التفسير- هذا الاستقبال الخاص الذي حظيت به قصة حي بن يقظان في عالم تتزايد فيه العلمنة ويبحث عن بديل عن الدّين"36.

ومع الذيوع الذي حققته قصة حي بن يقظان بترجماتها الأوروبيّة المتعددة بما يدل على أهميتها، إلا أن الحديث عن أدب أندلسي أو منجز فلسفي من الأندلس أو أي عبارة تشير إلى الإرث الحضاري الأندلسيّ كان ما يزال خافتًا أو عابرًا، ولا نظفر بإشارة إليه، مما يوحي بأن الأندلس كانت ما تزال بعيدةً عن اهتمام المستشرقين في إنجلترا حتَّى نهاية القرن الثامن عشر.

الترجمات الإنجليزية لحي بن يقظان:

صدرت ترجمات متعددة في إنجلترا لقصة حي بن يقظان، وكانت الترجمة الأولى من العربيّة إلى اللاتينية في عام 1671م، ثمَّ توالت ترجمات عديدة عن الترجمة اللاتينية: إلى الإنجليزية داخل إنجلترا، وإلى اللغات الأوروبيّة الناشئة خارجها.

ثمَّ كانت في سنة 1708م الترجمة الإنجليزية الأولى للقصة بترجمتها عن النص العربيّ لسايمون أوكلي، وستبقى هذه الترجمة الإنجليزية الوحيدة المنقولة عن الأصل العربيّ، على الرغم من تعدد طبعاتها، وإعادة تحقيقها ونشرها من جديد قبيل منتصف القرن العشرين، إلى أن يحل عام 1982م لتخرج في إنجلترا ترجمة إنجليزية جديدة عن الأصل العربيّ للقصة.

وفيما يلي جدول بالترجمات التي صدرت في إنجلترا حتَّى القرن العشرين، وتمتاز الطبعات المبكرة بعناوينها الطويلة؛ التي تشرح للقارئ جوهر القصة وتعطيه لمحة عن محتواها، فيما أصبحت العناوين موجزة مع حلول القرن العشرين:

تاريخ النشر

عنوان الترجمة

المترجم

1671

Philosophus Autodidactus siue Epistola Abi Jaafar, Ebn Tophail de Hai Ebii Yokdhan. In qua Ostenditur quomodo ex Inferiorum contemplatione ad Superiorum notitiam Ratio humana ascendere possit, Ex Arabica in Linguam Latinam versa ab Edvardo Pocockio.

إدوارد بوكوك

الابن

Edward Pococke,

1674

An Account of the Oriental Philosophy, Shewing The Wisdom of some renowned Men of the East ; And particularly, The profound Wisdom of Hai Ebn Yokdan, both in Natural and Divine things ; Which he attained without all Converse with Men (while he lived in an Island a solitary life, remote from all Men from his Infancy, till he arrived at such perfection) Writ Originally in Arabick, by Abi Jaaphar Ebn Tophail ; And out of the Arabick Translated into Latine, by Edward Pocok, a Student in Oxford; And now faithfully out of his Latine, Translated into English: For a General Service.

جورج كيث

(الكويكرز)

George Keith

(The Quakers)

1686

The history of Hai Ebn Yockdan, an Indian prince, or, The self-taught philosopher written originally in the Arabick tongue by Abi Jaafar Ebn Tophail …; set forth not long ago in the original Arabick, with the Latin version by Edw. Pocock...; and now translated into English.

Ibn Tufayl, Muhammad  ibn ʻAbd al-Malik, d. 1185., Pococke, Edward, 1604-1691., Ashwell, George, 1612-1695.

جورج آشويل

George Ashwell

1696

ترجمة مختصرة في 12صفحة، بعنوان:

The History of Josephus the Indian Prince.

وهي تقع في الجزء الأول من كتاب:

Greene, Robert: The Pleasant and Delightful History of Dorastius.

المترجم مجهول

1708

The Improvement of Human Reason, Exhibited in the Life of Hai Ebn Yokdhan: Written in Arabick above 500 years ago, by Abu Jaafar Ebn Tophail, in which is demonstrated by what methods one may, by the meer LIGHT of NATURE, attain the knowledge of things Natural and Suprenatural, more particularly the Knowledge of God, and the Affairs of Another life,... Illustrated with proper Figures. Newly Translated from the Original Arabick, by Simon Ockley... With an Appendix in which the possibility of Man`s attaining the True Knowledge of GOD, and things necessary to Salvation, without Instruction, is briefly considered.

سايمون أوكلي

Simon Ockley

1904

 

The Awaking of The Soul, Rendered from the Arabic with Introduction.

بول برونله

P. Bronnle

1929

تحقيق الترجمة الإنجليزية لسايمون أوكلي بعنوان:

The History of Hayy Ibn Yaqzan, by Abu Bakr Ibn Tufail.

فولتون

A.S. Fulton

1972

Ibn Tufayls Hayy Ibn Yaqzan: A Philosophical Tale.

New York.

جودمان

Lenn Evan Goodman

1982

Journey of the Soul: The Story of Hai bin Yaqzan.

London.

رياض كوكش

Riad Kocache

 

أما المخطوطات المعروفة لرسالة حي بن يقظان فهي محدودة، وقد أشار إليها عبد الرحمن بدوي37، وهي المخطوطات الموجودة في المكتبات الآتية:

مكتبة بودليانا بأكسفورد [رقمها 133] وهي التي جلبها بوكوك الأب من حلب، وتاريخ نسخها يعود إلى عام 703هـ/1303م، أي بعد وفاة ابن طفيل بأقل من مئتيْ عام. وهي النسخة التي اعتمد عليها ابنه لتحقيقها وترجمتها إلى اللاتينية عام1671.

المكتبة الأهلية في الجزائر، وتاريخ نسخها يعود إلى عام 1180هـ/1766م، وهي التي عثر عليها الفرنسي ليون جوتييه واعتمدها في تحقيق الرسالة من جديد عام 1900 مع ترجمة فرنسية.

مكتبة المتحف البريطاني، لندن.

دار الكتب المصرية، القاهرة، وفيها نسختان.

مكتبة دير الإسكوريال، مدريد.

لاندبرج، بريل، لايدن.

وقد ظلت المخطوطة التي حصل عليها بوكوك الأب في أثناء إقامته بحلب هي الوحيدة المعروفة للقصة لمدة طويلة، فهي التي رجع إليها ابنه عندما قام بنشرها وترجمتها للمرة الأولى.

ولم يكن بوكوك الابن في نشره حي بن يقظان وترجمتها إلى اللاتينية يقوم بهذا العمل وفق قواعد تحقيق النّصوص وأصولها؛ من حيث مقابلة النسخ المتوفرة وترجيح النسخة الأم، وتصويب الأخطاء وغير ذلك مما يقوم به المحقق في سبيل تجلية النص وفق ما أراده المؤلف؛ وذلك لأن أصول هذا الفن لم تكن قد أُرسيت بين المستشرقين، كما كانت سيادة المناهج الفيلولوجية قد صبغت أعمالهم بصبغتها، لذا فلم يكونوا يتحرّجون من نشر النص وفق نسخة وحيدة مما يكون قد وقع بين أيديهم وقد يتعجّلون ذلك أحيانًا لتحقيق السبق بينهم في الوقت الذي كانت فيه الدّراسات العربيّة تعيش عصرها الذهبي في أوروبّا منتصف القرن السَّابع عشر.

وإذا ما فحصنا العمل الذي قدمه بوكوك الابن، فإننا نجد أن الاهتمام بنشر القصة وترجمتها إلى اللاتينية كان رغبةً من والده في أن يقدّم ابنه الشاب (وكان عمره وقت نشرها 23عامًا) للمجتمع العلميّ في جامعة أكسفورد، بعملٍ تكون له قيمته كي يخلف والده على كرسي العربيّة في الجامعة نفسها. ولم تكن الرغبة في إضاءة شيء من التراث الأندلسيّ واردة!

وقد ذاعت حي بن يقظان -التي عنونها بوكوك بـ الفيلسوف المعلم نفسه- من أكسفورد إلى القارة الأوروبيّة في ظاهرة لافتة وغير عادية، نظرًا إلى عدد من العوامل أهمها: سمعة بوكوك الأب العلميّة في أكسفورد وخارجها؛ والدّليل على ذلك عدد الرسائل التي كانت تتوق إلى الاتصال به واستشارته، كما أن الترجمة اللاتينية نُسبت مرارًا على سبيل الخطأ إلى بوكوك الأب لا إلى ابنه؛ هذا إلى جانب توزيع الكتاب وانتشاره؛ فقد كانت ترجمته اللاتينية بعنوانها الجذّاب توزَّع على سبيل الإهداء في عدد من البلدان الأوروبيّة، مما ساعد على ظهور ترجمات أوروبية متلاحقة لـ حي بن يقظان38.

وأبلغ الأدلة على الاحتفاء بالكتاب هو الإعلان عن ترجمتها اللاتينية في جلسة الجمعية الملكية التي انعقدت في 17 تموز 1671 39.

ومن المفارقات اللافتة للنظر أن حي بن يقظان التي تعد واحدةً من عيون التراث الأندلسيّ، وأن إسبانيا هي مهد هذا التراث، ومع هذا فإن أول ترجمة إسبانية لهذه القصة قد تمَّت سنة 1900 في سرقسطة على يد F.Pons Boigues (ت1899) الذي توفي قبيل صدور ترجمته بقليل ولم يقدَّر له رؤيتها مطبوعة!

هذا مع الإشارة إلى أن مخطوطة حي بن يقظان كانت موجودةً ضمن مخطوطات مكتبة دير الإسكوريال التي وضع فهرسها ميخائيل الغزيري في 1760، ولكن المخطوط "... به خرم، وأثّرت فيه الرطوبة فتلاصقت أوراقه، وكان الغزيري في فهرست الإسكوريال قد أخطأ فذكر أنه رسالة في النفس التي ذكرها المراكشي، والواقع أنه حي بن يقظان بعينه"40.

ونُشرت في العام نفسه أول ترجمة فرنسية لحي بن يقظان على يد ليون جوتييه في الجزائر، بعد أن عثر هناك على مخطوطة ثانية للقصة، فأخرج النص العربيّ مع ترجمة ومقدمة بالفرنسية.

وهكذا فإنه حتَّى عام 1900 كانت حي بن يقظان قد قُرئت باللغات اللاتينية والهولندية والإنجليزية والألمانية والعبرية وأخيرًا الإسبانية والفرنسية.

الأندلس في إنجلترا: في ترجمات حي بن يقظان

فكيف تمثلت (الأندلس) في أذهان المترجمين وبأقلامهم في أثناء العمل على ترجمة هذا الأثر الفلسفي الأندلسيّ في إنجلترا؟ وكيف يمكن أن تُظهر اتجاهاتُهم في الحديث عن الأندلس من خلال الترجمة، وعيَـهم بالأدب الأندلسيّ ومنزلته في التراث العربيّ والعالمي؟!

إذا نظرنا إلى عناوين الترجمات الإنجليزية لحي بن يقظان التي كانت طويلةً نوعًا ما وتحمل فكرةً موجزةً عن القصة، فإننا نجد أن العنوان الأول الذي اتخذه بوكوك الابن ليقدّم النص للقرّاء المثقفين آنذاك، كان (الفيلسوف المعلم نفسه بنفسه)، ويلاحظ أن الترجمتين التاليتين لعمل بوكوك، وهما ترجمة جورج كيث 1674م وترجمة جورج آشويل 1686م، لم تبتعدا كثيرًا عن الفكرة ذاتها التي حملها العنوان الذي ابتدعه بوكوك الابن، وهي فكرة أنَّ الإنسان يمكنه أن يصل بنفسه إلى حقيقة الإيمان من دون مساعدة خارجية من الوحي أو من الناس.

هذا مع الإشارة إلى أن كيث جعل العنوان يدور على حكمة الفلسفة الشرقية المستمدة من حكمة حي بن يقظان، في حين جعل آشويل حي بن يقظان أميرًا هنديًّا؛ ربما لينسجم ذلك مع طريقته الرومانسية في الترجمة كي يجعلها قريبةً وجذّابةً للقرّاء.

أما سايمون أوكلي في ترجمته الإنجليزية الأولى الكاملة عن الأصل العربيّ لحي بن يقظان فإنه جعل عنوانها: تطور العقل البشري كما يظهر في حياة حي بن يقظان المكتوبة منذ 500 سنة بقلم أبي جعفر ابن طفيل.

ثمَّ بدأت عناوين ترجمات حي بن يقظان تبدو قصيرةً مختصرةً، إذ جعل بول برونله عنوان ترجمته المختصرة للقصة في 1904م يقظة الروح، ولم يذكر في العنوان شيئًا عن حي بن يقظان ولا عن مؤلفها ابن طفيل.

وكذلك فعل فولتون في طبعته سنة 1929م التي أعاد فيها تحقيق ترجمة أوكلي الإنجليزية لحي بن يقظان، فجعل عنوان العمل تاريخ حي بن يقظان لابن طفيل، وهو يختلف عن العنوان الذي وضعه أوكلي بالأصل عندما ترجم القصة.

وهكذا نلاحظ أن العناوين التي اختارها المترجمون لحي بن يقظان، لم تحمل إشارةً إلى أن العمل الذي يُترجَم يمتُّ بصلةٍ إلى الإرث الأندلسيّ!!

وإذ لا يمكن فصل الترجمات الإنجليزية لحي بن يقظان عن الأجواء الثقافية والفكرية في القرنين السَّابع عشر والثامن عشر، فإن القاسم الذي يجمع تلك الترجمات هو رؤية المترجمين ودوافعهم وغاياتهم ضمن السياق الفكري والثقافي السائد آنذاك: ففي العمل الأول الذي قدّمه بوكوك الابن كان الدّافع الشخصي والعلميّ يقف بقوة وراء إقدامه على نشر النص العربيّ لـ حي بن يقظان لأول مرة وترجمته إلى اللاتينية؛ فقد دفعه والدّه -كما ذُكر سابقًا- كي يمهّد له سبيل العمل في أكسفورد بإنجازٍ له شأن، في عالم الدّراسات العربيّة التي شهدت عصرًا ذهبيًّا في القرن السَّابع عشر على مستوى القارة الأوروبيّة، قبل أن يأخذ وهجها يتضاءل مع نهاية القرن نفسه.

وكان اختيار بوكوك الابن للترجمة إلى اللاتينية سببًا في انتشار القصة خارج إنجلترا وإتاحتها للمتعلمين من عامة القرّاء من جهة، في حين كان نشر العربيّ للقصة يلبي الحاجات العلميّة للمستشرقين والمهتمين بالدّراسات الشرقية من جهة أخرى.

أما بقية المترجمين فكل واحد منهم ينتمي إلى جهة معينة وجَّهت عمله في ترجمة حي بن يقظان وجهةً بعينها، سواء أقصَدَ إلى ذلك أم لم يقصد: فقد كان جورج كيث صاحب الترجمة الإنجليزية الأولى يأمل في أن تساعد ترجمته لحي بن يقظان جمهور المسيحيين في فهم الربط بين القصة وبين عقيدة الكويكرز التي آمنت بالنور الدّاخلي وتمجيد التجربة الفردية، ورأت "أن الله بروحه ينير دخائلهم ويمدّهم بكل ما يحتاجون إليه من معرفة بذات الحق، من أجل الخلاص الأبدي دون الحاجة إلى كتاب مقدّس"41.

في الوقت الذي أُعجب فيه جورج آشويل -القس الكاثوليكي الإنجليكاني- بقصة حي بن يقظان أيما إعجاب للقيم الأخلاقية التي تتضمنها؛ مما حمله على ترجمتها للإنجليزية ثانيةً في 1686، ولهذا فقد انتقى منها مختارات واستبعد أخرى، وصاغ ذلك بلغة شاعرية بسيطة؛ كي يقدّم القصة لقرّائه بما يسمح لهم بمتابعة قراءتها باستمتاع وإفادة. وقد حذف آشويل خطبة الكتاب التي كتبها ابن طفيل بين يدي القصة -كما فعل كيث -؛ لأنه ربما رأى فيها تفاصيل حول تاريخ الفلسفة الإسلاميّة قد لا تهم جمهور القرّاء42.

ومن الجدير ذكره أن كيث وآشويل كانا اعتمدا في عملهما على الترجمة اللاتينية التي أنجزها بوكوك الابن؛ وذلك لجهلهما باللغة العربيّة، بينما حرص أوكلي على ترجمة إنجليزية كاملة لقصة حي بن يقظان عن الأصل العربيّ لا عن الترجمة اللاتينية، وأوكلي هو أستاذ العربيّة في جامعة كمبردج، ولا يغيب عن ذهنه أهمية عمله هذا في إطار التنافس العلميّ بين أكسفورد وكمبردج من أجل تعزيز الدّراسات العربيّة في كلا الجامعتين في ذلك العصر.

لذلك لم يهمل أوكلي خطبة ابن طفيل بين يدي النص، وكان أمينًا في نقل الكتاب فقام بترجمة الرسالة كاملةً ابتداءً من خطبة المؤلف حتَّى نهاية القصة، كما ظهر في الطبعة الأولى للترجمة التي نشرت 1708، في حين لم تظهر ترجمة خطبة ابن طفيل في الطبعة الثانية لترجمة أوكلي التي ظهرت في 1720.

وكانت دوافع أوكلي لتقديم ترجمة إنجليزية ثالثة لحي بن يقظان -على الرغم من ترجمتين إنجليزيتيْن سابقتيْن لعمله- قد أجملها في إعجابه بالقصة على الرغم من بعض تحفظاته لأن مؤلفها مسلم وتحتوي بعض الأخطاء43، كما أنه رأى أن المترجميْن اللذيْن سبقاه إلى ترجمتها للإنجليزية، افتقدا في عملهما إلى نقل روح المؤلف الحقيقة لأنهما اعتمدا على لغة وسيطة للترجمة، وهو ما حاول تداركه بعمله على الترجمة من اللغة الأصلية للقصة.

وكان اختيار أوكلي للترجمة إلى اللغة الإنجليزية من أجل توسيع جمهور القرّاء فلا تبقى القصة حبيسة الدّائرة الاستشراقية الضيقة وتصل إلى قطاعات أوسع من القرّاء المتعلمين، ومجاراةً لتنامي الاتجاه نحو تعزيز اللغات المحلية الصاعد في أوروبّا.

وهذه الدّوافع كلها تكون مفهومةً ضمن سياق النشاط العلميّ الذي قام به أوكلي في مسيرته العلميّة وإسهاماته في الدّراسات العربيّة في كمبردج؛ فهو من المستشرقين الذين كان لهم دور في تحويل اهتمام الدّراسات العربيّة في إنجلترا من ميدان العلوم الطبيعية والتطبيقية إلى ميدان الأدب والتاريخ.

فيما نشر بول برونله مطلع القرن العشرين سنة 1904 ترجمته المختصرة لقصة حي بن يقظان، وهي ترجمة انتقائية تشبه في خطتها العامة ترجمة آشويل؛ إذ انتقى برونله من القصة ما رآه أكثر الفصول إمتاعًا للقارئ، لهذا تجاوز هو أيضًا عن خطبة ابن طفيل بين يديّ رسالة حي بن يقظان، كما تجاهل إغناء الحواشي بالتعليق أو الشرح، لكنه قدّم موجزًا لكامل القصة في مقدمته للكتاب، وهذا مؤشر على أن الاهتمام بمضمون القصة في المنزلة الأولى يفوق أي سبب آخر للاهتمام بها.

وقد عمد مترجمو حي بن يقظان إلى تقديم ترجماتهم الإنجليزية بمقدمات كانت ضروريةً للتمهيد للنص العربيّ بين يديّ القرّاء، فقد كانت الترجمة اللاتينية التي كتبها بوكوك الأب تشجيعًا منه لابنه على المضيّ في هذا العمل الذي لم ينشر سواه خلال مسيرته العلميّة في أكسفورد.

وقد بقي مترجمو حي بن يقظان في إنجلترا عالةً على المقدمة اللاتينية التي كتبها بوكوك الأب، على الرغم من أن أحد الباحثين وصفها بأنها "مقدمة غامضة مشوّشة حافلة بأكبر قدر من الأخطاء والتخبطات الجارفة: فكرًا ومنهجًا وأسلوب بحث"44؛ "لأن متون الفلسفة الإسلاميّة كانت حينذاك حبيسة المخطوطات ولم ير منها النور حرف بعد، فاعتمد بوكوك على فقرات من الكتب اللاتينية بخصوص هذه الفلسفة ... ولجأ إلى التكهن بخصوص أسرار الفلسفة المشرقية ..."45.

وهكذا فمعظم الترجمات الإنجليزية لحي بن يقظان -باستثناء ترجمة أوكلي- استبعدت خطبة ابن طفيل للقصة التي يذكر فيها فلاسفة الأندلس ووضع الفلسفة فيها، وهذا يعني أن مترجمي القصة لم تعترض طريقهم (الأندلس) التي وردت مرات عدة في خطبة المؤلف وبالتالي فلم يتطرقوا إلى ترجمتها للقارئ الإنجليزي أو إلى الوجود الإسلاميّ في الأندلس، ولا تكلموا في تعليقاتهم وحواشيهم حول القصة عما تعنيه في التاريخ الإسلاميّ، ولا إلى منزلة حي بن يقظان في التراث الأندلسيّ.

ويمكن هنا الوقوف عند ترجمة بوكوك اللاتينية وترجمة أوكلي الإنجليزية باعتبار أنهما الوحيدتان اللتان ترجمتا خطبة ابن طفيل التي سبقت رسالة حي بن يقظان، وهذا يدعو للنظر في: كيف تعامل كلاهما مع مصطلح الأندلس الذي ورد في الخطبة؟

فقد آثر بوكوك الابن استعمال Hispaniam مرة في ترجمته اللاتينية لكلمة الأندلس، واستعمال Andalosenis وAndalusia46 مرة أخرى مقابل كلمة الأندلس الواردة في النص العربيّ. وليس في النص حواشٍ أو تعليقات تشرح معنى الأندلس، الذي قد لا يكون مفهومًا لعامة القرّاء في ذلك العصر.

أما أوكلي فقد آثر استعمال Spain مقابلًا إنجليزيًّا لترجمة (الأندلس) التي وردت في خطبة الكتاب، واستعمال Spanish-philosophers مقابلًا للفلاسفة المسلمين، لكنه خصَّ قرّاءه بتوضيح في الحاشية يشرح لهم معنى أن يكون في إسبانيا فلاسفة؛ إذ لم يكن المترجم كما عرفنا مهتمًّا بأن يُخرِج للطباعة شيئًا من التراث الأندلسيّ، وإنما كان عليه أن يوّضح أن مصطلح الفلاسفة الأندلسيّين فكتب أنه لا ينبغي أن يُفهم بأن المعنى يشير إلى مسيحيين في إسبانيا إنما إلى مسلمين Moors؛ لأنهم قد فتحوا أجزاء كبيرةً من إسبانيا في العام 91هـ/710م، ثمَّ انتشر التعليم فيها على نطاق واسع فكان هناك عدد من المتعلمين المسلمين في إسبانيا الذين كانت لهم تلك الإسهامات في علم الفلسفة47.

وقد كانت الحواشي لدى أوكلي قصيرةً حول عدد من المصطلحات في ترجمته لحي بن يقظان؛ وهي ليست كافيةً لتعطي القارئ الإنجليزي معلومات وافيةً عن الأندلس؛ بل إن تلك التعليقات القليلة التي ذكرها أوكلي فيها الأندلس تدل على جهل القارئ الإنجليزي بأمر الوجود الإسلاميّ في إسبانيا أو الأندلس. وهي تكشف في الوقت ذاته ضآلة معلومات المترجم نفسه عن الأندلس؛ وينبغي ألا نعجب لهذا الأمر: إذ إن الوجود الإسلاميّ في الأندلس والتراث الحضاري الذي خلّفه المسلمون هناك كان ما يزال محجوبًا عن المستشرقين الأوروبيين المهتمين بالإرث الإسلاميّ في الشرق بالدّرجة الأولى. بينما كانت معظم ملاحظات مترجمي حي بن يقظان إلى الإنجليزية مهتمةً أولًا بمضمون القصة وجوهر فكرتها، وهي الفكرة التي قلنا إنها كانت رائجةً في أوروبّا في القرن السَّابع عشر، ولاقت بسبب ذلك قصة حي بن يقظان ذلك الاهتمام اللافت للأنظار. وهذا ما دفع أوكلي على الرغم من إعجابه بالقصة ودوافعه المتعددة لترجمتها- إلى أن يُلحق الترجمة ملحقًا من نحو عشرين صفحةً يفنّد فيه أفكار ابن طفيل التي رأى أنها مضللة للمؤمنين المسيحيين، وكأنه ينقض ما جاء في القصة ويعود للتأكيد أن الإنسان بحاجة إلى المعرفة والوحي الإلهي عبر الرسل كي يحصل على الخلاص48.

ومن اللافت للنظر كذلك أن ترجمة خطبة المؤلف لرسالة حي بن يقظان قد حذفت من الطبعة الثانية لترجمة أوكلي سنة 1720م وكذلك حذفها فولتون عند تحقيقه للترجمة في القرن العشرين 1929، وبذلك غابت الأندلس عن الترجمة الإنجليزية ولم نستطع الإلمام بتطور عناية المترجمين بكلمة الأندلس في نص حي بن يقظان.


الهوامش

1Bibliotheca Arabico-Hispana Escurialensis.

2 ينظر: محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، العصر الرابع، نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتـنصّرين، ط4 (تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع، 1990)، ص505.

3 Specimen Historia Arabum.

4 Harvey, Leonard Partick (1992), “British Arabists and Al Andalus”, Al Qantara, 13 (2),(pp. 423-436), P.426.

5 يوئيل يوسف عزيز (مترجم)،"اللغات الشرقية وآدابها في القرن السابع عشر في إنكلترا"، مجلة الجامعة، الموصل، السنة 6، المجلد 1 (1975)، ص43-44.

6 History of the Dominion of the Arabs in Spain.

7 Histoire des Musulmans d`Espange Jusqu`a la Conqueste de l`Andalusie par les Amoravides.

8 The History of the Mohammedan Dynasties in Spain.

9 Ellis, A. G. (1967), Catalogue of Arabic Books in The British Library, (London: Published by The Trustees of The British Museum). (First published 1894).

ومنها على سبيل المثال المصادر الأندلسية الآتية:

المعجب للمراكشي طبعة دوزي،1847،نفح الطيب للمقري، ط. جاينجوس، 1840-1843، نفح الطيب، ط. بإشراف دوزي، 1855-61، الذخيرة لابن بسام، ط. دوزي 1846، قلائد العقيان للفتح بن خاقان، ط. باريس، 1861، وط. بولاق، 1866، مطمح الأنفس، ط. القسطنطينية، 1844، سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون، ط. الإسكندرية 1873، و ط. القسطنطينية، ط. 1841… وغيرها.

10 ينظر: عمر فروخ: ابن طفيل وقصة حي بن يقظان، ط2 (بيروت: حقوق الطبع للمؤلف، 1959)، ص70-71.

11 فرديناند توتل اليسوعي، "حي بن يقظان وفلسفة ابن طفيل"، المشرق، العدد1 (يناير1931)، ص 42. وبقية أجزاء المقال نُشرت في المجلة نفسها والسنة نفسها: عدد2 و3 (فبراير ومارس 1931).

12 عبد الرحمن بدوي: حي بن يقظان لابن طفيل، مهرجان القراءة للجميع، مكتبة الأسرة (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995)، ص14.

13 Colin Wakefield (1994),”Arabic Manuscripts in the Bodleian Library: The Seventeenth-Century Collections”. In: Russell, G. A. (Ed.),”Arabick” Interest of The Natural Philosophers in Seventeenth-Century England, (Leiden. New York. Koln: E.J. Brill).Pp. 130-135.

14 عمر فروخ: ابن طفيل وقصة حي بن يقظان، ص58.

15 Nahas, Michael, “A Translation of Hayy B. Yaqzän by the Elder Edward Pococke (1604-1691)”. Journal of Arabic Literature, vol.16:pp. 88-90,1985, p.88.

أما صاحب هذا المقال مايكل نحاس، فيشير إلى وجود أشخاص ربما كانوا على معرفة بخبر هذه الترجمة ويسوق أدلته على هذا الرأي، وهو يحاول في مقالته أن يفسر لماذا لم يخبر بوكوك أحداً عن محاولته تلك؟

وينظر أيضا: يوئيل يوسف عزيز (مترجم)، "من رواد الدراسات العربية في إنكلترا: إدوارد بوكوك 1604-1691"، مجلة الاستشراق، العدد 2 (1987)، ص27. والمقال هو ترجمة للفصل الأول من كتاب:

P.M Holt, “An Oxford Arabist: Edward Pococke (1604-91)”, In: Studies in the History of the Near East, (London: Frank. Cass, 1973), A. Pp. 3-26.

16 يوئيل يوسف عزيز، "من رواد الدراسات العربية في إنكلترا: إدوارد بوكوك 1604-1691"، ص27.

17 للمزيد حول شعبية الطبعة التي نشرها بوكوك، والإقبال المتزايد على طلبها من شخصيات في أماكن متعددة، ينظر:

Russell, G. A, “”The Impact of the Philosophus Autodidactus”: Pocockes, John Locke and the Society of Friends”. In: Russell, G. A. (Ed.), “Arabick” Interest of The Natural Philosophers in Seventeenth-Century England. (pp. 224-265). (Leiden. New York. Koln: E.J. Brill, 1994). Pp.226-227.

18 Remke Kruk,”An 18th-Century Descendant of Ḥayy ibn yaqẓān and Robinson Crusoe: Don Antonio de Trezzanio”, Arabica, T. 34, Fasc. 3 (Nov. 1987), p.357, note(1).

19 Conrad, Lawrence, I. (Ed.), (1996), The World of ibn Tufayl on Hayy ibn Yaqzan: Interdisciplinary Perspectives. Leiden: E. J. Brill, p. 3.

20 عبد الرحمن بدوي: حي بن يقظان لابن طفيل، ص32.

21 Esdaile, Arundell, A list of English tales and prose romances printed before1740, (London, Printed for the Bibliographical Society by Blades, East & Blades, 1912). Pp.145-146.

22 للمزيد حول الترجمات ينظر:

Remke Kruk,”An 18th-Century Descendant of Ḥayy ibn yaqẓān and Robinson Crusoe: Don Antonio de Trezzanio”, p.364, note. (25)

إبراهيم بورشاشن، "كيف أخرج الناشرون حي بن يقظان لابن طفيل؟"، مجلة مدارات فلسفية، العدد 3 (فبراير 2000)، ص 99-118.

23 عمر فروخ: ابن طفيل وقصة حي بن يقظان، ص72.

24 إبراهيم بورشاشن، "هل نحن في حاجة إلى ابن طفيل؟"، بحث محكّم، موقع: مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2016، ص18.

25 مدني صالح، "من ابن طفيل إلى دانيال دوفو وقضية حي بن يقظان وروبنصن كروزو"، مجلة آفاق عربية، المجلد 6، العددان 6-7 (1981)، ص173.

26 عبده عبود وآخرون، الأدب المقارن مدخلات نظرية ونصوص ودراسات تطبيقية، (دمشق: مطبعة قمحة إخوان، 2001)، ص211.

 وهو يذكر على سبيل المثال: دانيال دوفو (ت1731) صاحب قصة روبنسون كروزو؛ إذ هرب من إنجلترا؛ لأن عصره كان عصر اضطراب، إلى إسبانيا وعاش فيها عاميْن، ولم تظهر موهبته الأدبية إلا بعد عودته إلى بلاده.

27 The Vital Roots of European Enlightenment: Ibn Tufayl’s Influence on Modern Western Thought.

28 خالد الحلي: "كيف أثر ابن طفيل على الفكر الغربي الحديث؟"، جريدة الشرق الأوسط، العدد رقم 10599، (5 ديسمبر 2007).

29 منال محمد حسن، "حي بن يقظان لابن طفيل الأندلسي والقارئ الإنكليزي في مطلع القرن الثامن عشر"، مجلة آفاق عربية، العدد12، (ديسمبر 1979)، ص49.

30 “The Impact of the Philosophus Autodidactus”, p.228.

31 مدني صالح، "من ابن طفيل إلى دانيال دوفو"، ص175-176.

32 مدني صالح، "ابن طفيل: من اللاهوت إلى الرواية الإنكليزية"، مجلة الأقلام، السنة9، العدد1 (1973)، ص9.

33 نوال محمد حسن، "حي بن يقظان لابن طفيل الأندلسي والقارئ الإنكليزي في مطلع القرن الثامن عشر"، ص49.

34 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

35 نوال محمد حسن، "حي بن يقظان لابن طفيل الأندلسي والقارئ الإنكليزي في مطلع القرن الثامن عشر"، ص45، نقلاً عن جب في The legacy of Islam.

36 إبراهيم بورشاشن، "هل نحن في حاجة إلى ابن طفيل؟"، ص19.

37 عبد الرحمن بدوي، حي بن يقظان لابن طفيل، ص12-13.

38 “The Impact of the Philosophus Autodidactus”, p.226.

39 “The Impact of the Philosophus Autodidactus”, p. 232.

40 عبد الرحمن بدوي، حي بن يقظان لابن طفيل، ص13.

41 حسن محمود عباس، حي بن يقظان وروبنسون كروزو: دراسة مقارنة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1983)، ص174-175.

42 المرجع السابق بتصرُّف، ص179.

43 Simon Ockley, The Improvement of Human Reason, Exhibited in the Life of Hai Ebn Yokdhan…, (London, Edm. Powell,1708), p. 167.

44 مدني صالح، "ابن طفيل: من اللاهوت إلى الرواية الإنكليزية"، ص6.

45 المرجع السابق، ص11 حاشية (3).

46 Edward Pococke, Philosophus Autodidactus siue Epistola Abi Jaafar, Ebn Tophail de Hai Ebii Yokdhan, (H. Hall: Oxonii [Oxford], 1671. p.15 and p.20.

47 The Improvement of Human Reason, p. 14, note (2).

48 المرجع السابق، ص 194-195.

 

رشا الخطيب
رشا الخطيب
أستاذة وباحثة في الدراسات الاستشراقية البريطانية. عملت في مجالات الترجمة وتدريس اللغة العربية والدراسات الاجتماعية في الأردن.