مراحل الترجمة من اللغةِ العربيّة إلى اللغة الألبانيّة - العوامل والتَّحديات
ناصر رمضاني

تمهيد
بَدأتْ رحلة الترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة مع بداية انتشار الإسلام بين الألبانيين، وذلك أن انتقالهم إلى الدين الجديد وهو الإسلام استدعى التعرف على هذا الدين وعلى مصادره والتي كانت باللغة العربيّة، وهذا لم يتحقق إلا بتعلم هذه اللغة أو الترجمة منها إلى لُغتهم، والفترة الطويلة للترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة والممتدة لعدة قرون لا تدع مجالًا للنقاش حول وجود مثل هذه الترجمات، ولكن يمكن الحديث فقط عن نوعها وجودتها. إن نظرةً فاحصةً للمراحل التاريخية المختلفة للترجمة، تبيّن أن أغلب الترجمات من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة كانت تتعلق بموضوعات دينية باستثناء بعض الموضوعات الأدبية والتي عرفت بالأدب "البيتجي".
إننا في هذا البحث سنقدّم العوامل التي ساعدت على انتشار الترجمة في الموضوعات الدينية فقط، سواء عبر التاريخ الممتد لعدة قرون أو في واقعنا المعاصر، ولماذا ترجمة الموضوعات الأخرى لم تجد هذا الاهتمام الكبير الذي حظيت به الكتب والموضوعات الدينية الإسلامية؟
ومن ناحية أخرى هناك كثير من التحديات التي واجهت وتواجه عملية الترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة في الماضي وفي وقتنا الحاضر. فهذه التحديات ليست ذات اتجاه واحد بل هي من عدة اتجاهات. أحيانًا تتعلق التحديات بالكتاب أو المادة المترجمة، وأحيانًا بمدى ثقافة المترجم اللغوية، وأحايين أخرى بجودة الطباعة إلخ.
وفي نهاية هذه الدراسة سنذكر أهم النتائج والتوصيات، ما يتيح للدارسين والباحثين في المستقبل أن يكونوا على صورة واضحة لمراحل الترجمة ومشاكلها من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة.
الترجمة أول وثيقة في اللغة العربيّة وفي اللغة الألبانيّة
إن عملية الترجمة لها علاقة أصيلة باللغة الألبانيّة، حيث إن الوثائق الأولى التي عثرت عليها في اللغة الألبانيّة هي في الأصل ترجمات من لغات أخرى، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللغة العربيّة. وبهذا يفهم أن القاسم المشترك بين اللغة العربيّة واللغة الألبانيّة هي الترجمة، وهذا يعني أنه لا يتصور دراسة هاتين اللُّغتين دون الأخذ بعين الاعتبار قضية دراسة الترجمة أيضًا من هاتين اللُّغتين وإليهما.
إن قضية الترجمة إلى اللغة العربيّة بدأت في وقت مبكر قبل الإسلام. أما بعد انتشار الإسلام بين العرب فهذه الظاهرة أصبحت منتشرةً جدًّا، حيث ترجمت خلال العهد الأموي وفي صدر العهد العباسي كثير من الكتب، خاصة الكتب المتعلقة بالفلسفة اليونانية.
الترجمة عند الألبانيين
لعلَّ من المفيد قبل الخوض في أعماق الترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة أن نقول كلمةً عامةً عن الترجمة في اللغة الألبانيّة. متى بدأت؟ وما هي الوثائق الأولى المترجمة؟ وغير ذلك.
وجدت الترجمة لدى الألبانيين منذ العثور على الوثائق والكتابات الأولى لهذه اللغة. فصيغة تسمية الأطفال (1462) صيغة مسيحية عامة مترجمة إلى اللغة الألبانيّة. وكذلك المعجم (1479) للرحالة النمساوي آرنولد فون حرف Arnold Fon Harf يعتبر عنصرًا مهمًّا في حقل الترجمة. وتأتي بعد هاتين الترجمتين ترجمات كثيرة أخرى والتي تخدم قضية الترجمة. هذه هي الترجمات الأولى غير المباشرة في اللغة الألبانيّة، ولكن أول من قام بالتَّرجمة وبطريق مباشر عند الألبانيين هم: بوزوكو Buzuku حيث قام بترجمة الكتاب الكنسي مشاري وذلك عام 1555، ثم بوديBudi والذي ترجم العقيدة المسيحية عام 1618، ثم بارذي Bardhi حيث قام بترجمة "المعجم لاتيني-ألباني"، ثم بوغداني Bogdani والذي قام بترجمة أربع باءات (Katër B-të) كما يسميها وداد كوكونا Vedat Kokona 1.
بغض النظر عن طبيعة المترجمات الأولى، إلا أن هناك شيئًا مؤكدًا؛ أن هذه الترجمات كلها كانت لها علاقة بالمجال الديني المسيحي. وكذلك سنرى أن الترجمات الأولى من اللغة العربيّة لها علاقة بالمجال الديني الإسلامي وبعض الأعمال الأدبية.
كيف بدأت رحلة الترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة؟
إن الترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة عملية لغوية في المقام الأول، إلا أن هذه الترجمة في الأساس لم تكن بدوافع لغوية، بل كانت بدوافع دينية حيث إن انتقال الألبانيين إلى الإسلام استدعى تعرفهم على القرآن الكريم وعلى الكتب الدينية الأخرى. يفهم من هذا أن جذور الترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة تمتد إلى بدايات انتشار الإسلام في الأراضي الألبانيّة، وذلك في بداية القرن الخامس عشر الميلادي2.
وخلال هذه الفترة -أي فترة انتشار الإسلام- فإن الألبانيين المسلمين بالإضافة إلى استخدام اللغة العربيّة كأداة لفهم الإسلام فإنهم بدأوا باستخدام الأبجدية العربيّة أيضًا3، لأن غير المسلمين من الألبانيين كانوا يستخدمون الأبجدية اليونانية. بما أن مفهوم القومية لم يكن له وجود في تلك الأوقات فإن الانتقالات الدينية كانت لها أثر مباشر في الانتقالات القومية والثقافية، فكما يذكر المستشرق الألباني حسن قلشي Hasan Kaleshi أن الألبانيين الذين دخلوا الإسلام قبلوا الأبجدية العربيّة أيضًا لعدم وجود أبجدية خاصة لهم. فالدافع الديني هو الذي جعل الألبانيين المسلمين يقبلون على تعلم قراءة القرآن الكريم، وفي الوقت نفسه هؤلاء الألبانيون لم يكونوا يعرفون الكتابة والقراءة بلغة أخرى، وهذا بشكل مباشر أثر في استخدام الأبجدية العربيّة، ليس لتَعَلُّمِ القرآن فحسب، بل بدؤوا باستخدامه حتى في علاقاتهم العادية4. ثم إن هذا الأمر تطور بشكل ملفت. فالألبانيون المسلمون في بداية الأمر تعلموا القرآن فقط، وبعد ذلك استخدموا الأبجدية العربيّة لحاجاتهم اليومية، وفي النهاية باشروا تعلم اللغة العربيّة للتواصل مع الآخرين، ولكن ما يهمنا في هذا البحث هو قضية الترجمة فقط.
بناءً على ما تقدم ذكره فإنه من المفروض منطقيًّا أن يكون القرآن أول ما ترجم إلى اللغة الألبانيّة، ولكن بالتأكيد فإن هذه الترجمة للقرآن الكريم لم تكن كاملةً بل جزئيةً، وليست على شكل مكتوب، بل ترجمة بعض الآيات والسور القرآنية التي نقلها بعضهم إلى بعض. فالعادات والتقاليد الألبانيّة الإسلامية تثبت أن تعلم العشر السور الأخيرة وترجمتها في الكتاتيب من قبل أغلب المسلمين كانت عادةً متبعةً، حيث كان المعلمون في الكتاتيب يعلمون التلاميذ السور القرآنية باللغة العربيّة أولًا ثم ترجمتها باللغة الألبانيّة.
مراحل الترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة
فهمنا مما سبق أن الترجمة العربيّة إلى اللغة الألبانيّة دخلت بالتدرج، فبناءً عليه كي تكون لنا صورة أوضح حول تطور الترجمة من العربيّة إلى الألبانيّة فإننا سنقسم عملية الترجمة على عدة مراحل مهمة حسب التغيرات والأحداث التاريخية والسياسية المختلفة.
المرحلة الأولى
تشمل هذه المرحلة الفترة قبل مجيء العثمانيين إلى هذه المناطق، أي في الفترة التي كان العرب والأتراك يأتون إلى المناطق الألبانيّة للتجارة والدعوة. وتعتبر هذه الفترة أول اتصال بين العرب والألبانيين وأول نفوذ للإسلام في هذه المناطق. بدأ هذا التواصل في القرن التاسع الميلادي ثم تطور بشكل أكبر في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي5. ففي هذه الفترة سواء كانت الترجمة لأغراض دينية أو تجارية فقد كانت بشكل شفهي.
وتشمل هذه الفترة أيضًا بداية وضع الإدارة العثمانية في المناطق الألبانيّة. فهذه الإدارة في القرنين الأولين منها، بالإضافة إلى اللغة العثمانية كلغة رسمية ففي كثير من المجالات كانت تستخدم اللغة العربيّة أيضًا6، وكل هذا كان يستدعي القيام بالتَّرجمة كي يكون مفهومًا للألبانيين ولأجل التواصل فيما بينهم. ومهما يكن من أمر فإن الترجمة في هذه الفترة لم تصل إلينا.
مرحلة البيتجيين
بعد انتشار الإسلام بين الألبانيين بشكل كبير حيث أصبح غالبية الألبانيين مسلمين، فإنهم اهتموا بالتعلم وسافروا لطلب العلم إلى مراكز العالم الإسلامي آنذاك، وخاصةً إلى إسطنبول مقر الخلافة العثمانية. وبتعلمهم هذا وتخرجهم من مدارس ومعاهد -والتي كانت بمثابة جامعات اليوم- فإنهم بدؤوا يسهمون في المجالات الإسلامية المختلفة. كان البعض منهم يكتب ويتواصل باللغة العثمانية، وكان آخرون يستخدمون اللغة العربيّة والفارسية، وكان آخرون يكتبون اللغة الألبانيّة بالأبجدية العربيّة.
ففي هذه الفترة، بالإضافة إلى الكتابة، بدأت رحلة الترجمة إلى اللغة الألبانيّة. واشتملت هذه الترجمة أهم الأعمال المتعلقة بالإسلام وبالأدب الشرقي، خاصةً الأدب العربي والفارسي والعثماني. وللأسف الشديد لم يتبق من هذه الأعمال إلا القليل وبعضها موجودة في الأرشيفات المختلفة وتنتظر من يتصفّحها.
تمَّ في عهد الأدب الألباني القديم، بالأحرى في الأدب البيتجي ترجمة كثير من الأعمال من اللغات الشرقية، وكان أكثر هذه الترجمات عبارةً عن أشعار وقصائد ذات مضمون ديني. للتوضيح نذكر بعض هؤلاء: محمد كوشوكو Muhamed Kuçuku والذي ترجم من العربيّة قصيدةً سميت بقصيدة "بيربا"Kaside Byrba. هناك أشعار وقصائد أخرى تتعلق بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرى تتعلق بعيسى عليه السلام وأخرى بذات الإنسان. محمد كوشوكو لديه ترجمة أخرى من اللغة التركية وعنوانها "ترك الصلوات"، وتحتوي هذه القصيدة على 416 بيتًا. هناك قصيدة أخرى حول مولد النبي عليه الصلاة والسلام ورسالة أخرى سميت برسالة البرجوي7. من بين القصائد التي تتعلق بمولد النبي عليه الصلاة والسلام في مرحلة البيتجيين، وبالتحديد في عام 1879 ترجمت إلى اللغة الألبانيّة بالأحرف العربيّة قصيدة سليمان جلبي وقام بترجمتها الحافظ علي أولكيناكو Ali Ulqinaku 8. ففي مجال الشعر قام الشاعر الألباني المعروف في القرن التاسع عشر محمد تشامي Muhamed Çami بترجمة الأشعار العربيّة إلى اللغة الألبانيّة بالحروف العربيّة. ومن أشهر ترجماته الشعرية قصيدة "البردة" للبوصيري9.
ويتبيّن مما سبق أن في هذه المرحلة، كانت الترجمة بالإضافة إلى الأعمال الدينية كانت تحتوي على الأعمال الأدبية أيضًا. هناك شيء آخر يجدر ذكره وهو القيام بالشعر من قبل شعراء ألبانيين. وقد ألهمتهم القيامَ بهذه العملية القصائدُ والأشعار والغزليات باللغة العربيّة والفارسية والعثمانية. وكانت هذه القصائد في كثير من الأحيان لها أصل في اللغات الأخرى ولكنها عدلت بشكل مناسب للغة الألبانيّة وأصبحت أصليةً. من أمثال هذه الأشعار لدينا شعر "كربلاء" لنعيم فراشري Naim Frashëri و "يوسف وزليخا" لمحمد كوشوكو.
كان من أكبر التحديات في هذه المرحلة عدم وجود أبجدية ألبانية أصيلة. فوجود هذا الفراغ كان عقبةً في القيام بعملية الترجمة، لأن الألبانيين ما داموا كانوا يستخدمون الأبجدية العربيّة كان حريًّا بهم أن يتعلموا اللغة العربيّة نفسها بدلًا من أن يقوموا بالتَّرجمة منها، لأن تعلمهم اللغة العربيّة كان يساعدهم على فهم النصوص العربيّة مباشرةً.
ومما يجدر ذكره هنا، أن المشاعر القومية الألبانيّة آنذاك لم تكن ظاهرةً ومتطورةً، خاصةً في المرحلة المتقدمة حتى القرن الثامن عشر الميلادي، وأدّى هذا إلى فتور الدافع القومي للترجمة إلى اللغة الألبانيّة. كان مهمًّا أن يكون لهم إلمام بالعلوم والمعرفة بغض النظر عن اللغة التي يستخدمونها للوصول إليها، بل في تلك الفترة كانت ميزةً أن يتحدث الإنسان باللغات التي كانت تقود العالم كما هي العربيّة والعثمانية.
بدأت هذه المرحلة بالتراجع مع الظهور القوي للقومية، وبالتحديد مع ظهور كتابات القوميين النهضويين. يمكن القول أن هذه المرحلة انتهت مع خروج العثمانيين من هذه المناطق واستقلال ألبانيا وذلك في عام 1912.
مرحلة الاستقلال
وجد نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مسلمي البلقان ومن بينهم الألبانيين في حروب مختلفة، حيث الشعوب البلقانية المسيحية أعدت العدة ومن ورائهم الدول الغربية الكبرى للقيام ضد الدولة العثمانية، فكان خروج العثمانيين في عام 1912، ثم تلاحقت الحروب البلقانية الأولى في عام 1914 والثانية في عام 1918، ثم الحروب العالمية الأولى والثانية وكانت المناطق الألبانيّة خلال كل هذه الحروب جزءًا من الأراضي التي قامت عليها. ففي هذه الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية الصعبة لا يمكن الحديث بتاتًا عن تقدم علمي. مع ذلك ففي هذه الفترة وجدت بعض الأمور العلمية المكتوبة والمترجمة.
ترجمت خلال هذه الفترة كثير من الكتب والأعمال ذات موضوعات إسلامية. من بين من قام بالتَّرجمة هو الحافظ علي كورجا Hafiz Ali Korça والذي من بين ما ترجم أجزاء من القرآن الكريم ورباعيات عمر الخيام10. ومن المترجمين الآخرين عبد الله زمبلاكو Abdullah Zemblaku والذي ترجم عشرات الأعمال، وكذلك الحافظ إبراهيم داليو Ibrahim Dalliu وغيرهم.
أما الفترة التي ازدهرت الترجمة من اللغة العربيّة فهي الفترة بعد عام 1923 وهو العام الذي تأسس فيه الاتحاد الإسلامي الألباني. قام المسؤولون في هذا الاتحاد بمبادرات رسمية للترجمة من اللغة العربيّة. وشملت هذه المبادرات مجلة "الصوت العالي" (Zanii Naltë) ومجلة "الثقافة الإسلامية" (Kultura Islame)، ونلحظ في ثنايا هاتين المجلتين مقالات ومواضيع مترجمة بشكل مميز من اللغة العربيّة. إن هذه الموضوعات المترجمة والمنشورة في هاتين المجلتين والمراقبتين من قبل المسؤولين في الاتحاد الإسلامي الألباني في أغلب الأحيان تحتوي على موضوعات إسلامية مثل العقيدة، والتفسير والحديث والفقه والتربية الإسلامية والتاريخ الإسلامي إلخ، وتحتوي أيضًا موضوعات فلسفيةً وأدبيةً ولغويةً وتاريخيةً وغيرها.
وتنتهي هذه الفترة في عام 1945؛ حين وصل إلى الحكم في ألبانيا الحزب الشعبي الألباني أو بالأحرى النظام الغاشم المستبد الشيوعي برئاسة أنور خوجا Enver Hoxha .
فخلال فترة 1912-1945 أي من الاستقلال وحتى وصول الشيوعيين إلى الحكم عايش الألبانيون في رحلة الترجمة من اللغة العربيّة تحديات مختلفةً. إحدى هذه التحديات أن بعد خروج العثمانيين استُبدلت الأبجدية العربيّة بالأبجدية اللاتينية، وهذا لم يتقبله جزء كبير من الألبانيين وخاصةً المتدينين الإسلاميين، ولكن سرعان ما تأقلم الألبانيون بالأبجدية الجديدة وبدأت الكتابة والتَّرجمة بها. فكانت التحديات سياسيةً في المقام الأول لأنهم بعد الاستقلال من الدولة العثمانية كانوا هدفًا للأطماع المختلفة من الصرب والإيطاليين والألمان وتوّج كل هذا بمجيء الشيوعيين إلى الحكم.
المرحلة الشيوعية
كل دارس لحالة البلقان يرى جليًّا أن المخططات ضد المسلمين لم تكن لتتوقف. فالخطة الأولى التي قام بها هؤلاء المخططون هو تحريض جميع الشعوب ضد الدولة العثمانية، بل تحريض حتى المسلمين بحجة أنهم سينالون استقلالهم التام. وأما الخطة الثانية وذلك بعد تحقيق الخطة الأولى هي تقسيم الأراضي الألبانيّة على ست دول وهي ألبانيا الأم والجبل الأسود وكوسوفا وصربيا ومقدونيا واليونان، وكانت تبلغ مساحة الأراضي الألبانيّة 82000 كم مربع ودولة ألبانيا اليوم لا تتعدى مساحتها 26000 كم مربع. وفي عام 1945 أتت الدول الكبرى وفرضت على رأس هذه الدولة الصغيرة حزبًا أجهز على ما تبقى من أمور دينية؛ حيث هدموا مئات الجوامع والمساجد والكتاتيب والمدارس الإسلامية وأحرقوا الكتب الإسلامية وأتلفوا المخطوطات وقتلوا وعذّبوا مئات الشيوخ والعلماء وحتى الرهبان. وكان الغيظ الذي أسرّوه خلال ستة قرون من الحكم العثماني قد أعلنوه على مسلمي البلقان خاصةً الألبانيين والبوسنيين.
فخلال هذه الفترة أخذ مصير المسلمين الألبانيين منحنى خطيرًا. فالألبانيون أصبحوا منقسمين بين عدة دول وكانت لكل دولة النظام السياسي الخاص بها. وكان الألبانيون في ألبانيا منخنقين تمامًا حيث في عام 1967 صدر قانون يمنع الدين والنشاطات الدينية بشكل نهائي وقطعي11. بينما كان الألبانيون خارج ألبانيا أغلبهم داخل دولة يوغوسلافيا الاشتراكية. فكان هؤلاء مهمّشين تمامًا عن الحياة السياسية والعلمية والدينية12.
قمنا بهذا التقسيم -أي تقسيم الألبانيين داخل ألبانيا وخارجها- لكي نكون على صورة أوضح لمجريات العملية العلمية والدينية لأنهما كانتا مختلفتين. ففي ألبانيا لم يكن يتصور القيام بأي نشاط علمي وديني مهما كان صغيرًا، أما في يوغوسلافيا فكانت تحت مراقبة تامة. فبناءً عليه يمكننا الحديث عن الترجمة من العربيّة إلى الألبانيّة في يوغوسلافيا أما في ألبانيا، فإن شيئًا من هذا القبيل لم يحدث بتاتًا.
ومما يجدر ذكره، أنه خلال العهد الشيوعي افتتحت في يوغوسلافيا وبالتحديد في المناطق التي يسكنها الألبانيون مدرستان إسلاميتان: الأولى في بريشتينا Prishtina عاصمة كوسوفا، والثانية في سكوبيه Skopje عاصمة مقدونيا، وكذلك افتتح قسم الاستشراق ضمن جامعة بريشتينا. فقد ساهمت المدرستان الإسلاميتان من خلال مدرِّسِيها في ترجمة كثير من الكتب والموضوعات ذات طابع ديني، في حين أن قسم الاستشراق ساهم في ترجمة المواضيع الأدبية واللغوية والتاريخية.
وكان الألبانيون في يوغوسلافيا يواجهون تحديات من قبل الدولة من ناحية ومن ناحية أخرى من قبل الشعب نفسه، لأن تعامل الإنسان واهتماماته بالتَّرجمة من اللغة العربيّة كان بحدّ ذاته يعدُّ تخلفًا- وموضع ازدراء- في نظر الطبقة المثقفة، وهذا بالتحديد ما كانت تريده وتهدف إليه الدولة الشيوعية.
هناك تحدٍّ آخر حول الترجمة من اللغة العربيّة في هذه المرحلة ألا وهو تمويل الترجمات، لأن في تلك الفترة لم يجرؤ أحد على القيام بتمويل طباعة كتب أم موضوعات مترجمة من اللغة العربيّة أو ذات مضمون ديني. مع كل هذه الاضطهادات والملاحقات فقد حظيت المكتبة الألبانيّة وبالتحديد في هذه الفترة الحرجة على أهم ترجمات القرآن إلى اللغة الألبانيّة.
أما في ألبانيا فمجرد القيام بأداء فريضة إسلامية كان يحكم على صاحبها بالإعدام، فضلًا عن القيام بأي أنشطة لها علاقة بالعالم العربي أو بالتَّرجمة من اللغة العربيّة.
مرحلة بعد سقوط النظام الشيوعي
في بداية التسعينات من القرن الماضي سقط النظام الشيوعي في كل من ألبانيا ويوغوسلافيا حيث يسكن فيهما الألبانيون. أما يوغوسلافيا فقد تفككت إلى عدة دول فأصبحت الدول التي يعيش فيها الألبانيون – مثل كوسوفا ومقدونيا وصربيا والجبل الأسود- مستقلةً. فهذه الدول انتقلت من الشيوعية إلى الديمقراطية الأمر الذي ساعد كثيرًا على إنعاش عملية الترجمة وطباعة الكتب والمجلات المختلفة.
سقوط الشيوعية في ألبانيا والاشتراكية في يوغوسلافيا أتاحت إمكانيات وفتحت مجالات مختلفةً للقيام بعملية الترجمة من اللغة العربيّة. فخلال العقدين الأخيرين فتحت دور نشر كثيرة وترجمت كثير من الكتب من اللغة العربيّة.
لا أريد التوقف في ذكر عدد الكتب التي ترجمت من العربيّة إلى الألبانيّة فهي تتعدّى المئات13، ولكنني سأتوقف قليلًا في نوع هذه الترجمات والمجالات التي تشملها. إن الكتب المترجمة من اللغة العربيّة خلال هذين العقدين الأخيرين فإن أكثر من 90 % منها كتب دينية، أو لها علاقة بالمجال الديني. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تحتوي الترجمة من اللغة العربيّة على هذا النوع فقط؟
في الجواب عن هذا السؤال نقول إن الشعب الألباني سواء في ألبانيا أم في يوغوسلافيا لأكثر من نصف قرن عانى كثيرًا من الفراغ الديني الذي سببه النظام السياسي، وبعد سقوط هذا النظام هرعوا لملء هذا الفراغ وباشروا بترجمة الكتب الدينية خاصةً من اللغة العربيّة. هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى خلال العهد الشيوعي درس كثير من الطلاب الألبانيين العلوم الإسلامية في مراكز العالم العربي والإسلامي مثل مصر وسوريا والأردن والسعودية وتونس واليمن ولبنان وغيرها من البلدان، فبعد انتهائهم من الدراسة ورجوعهم إلى أوطانهم اشتغل كثير منهم بترجمة ما قد درسوه.
مشكلة التركيز على ترجمة الكتب الدينية فقط لها علاقة بالتجارة أيضًا. فأغلب دور النشر والكتب المترجمة قد مُوِّلت من الدول العربيّة، خاصةً من الجمعيات الإسلامية التي باسم الدين كانت تطالب بترجمة وطباعة الكتب الدينية فقط، دون أن تشمل الثقافة والأدب والتاريخ وغير ذلك. نقول باختصار إن هذه الجمعيات مولت ولا تزال توجهاتها الدينية في هذه المناطق. وساهم كل هذا وعن طريق الكتب المترجمة من اللغة العربيّة في نقل المشاكل الفكرية من الدول العربيّة إلى المناطق الألبانيّة. هذه الأعمال وفي كثير من الأحيان من غير وعي جعل الألبانيين يفقدون ذاتيتهم الدينية التي طوروها خلال خمسة قرون، والتي تشكّلت وتكوَّنَت نهائيًّا في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وأخيرًا نقول إن الترجمات من اللغة العربيّة لا زالت لها وجود قوي في الساحة الألبانيّة، وهذا لا شك أنه جميل، ولكن الأجمل منه هو التركيز على ترجمة المصادر الإسلامية التي تشمل كل الميادين، ثم ترجمة الكتب التي لها علاقة بالأدب والثقافة والتاريخ وفلسفة الفكر العربي لأننا لن نستطيع فهم حقيقة الإسلام إلا بالإلمام بكل جوانبه.
الهوامش
1 Edmond Tupja, Këshilla një përkthyesi të ri, Botimi i dytë, (Tiranë: Onufri, 2000), f. 10.
2 حول انتشار الإسلام في هذه المناطق اقرأ كتاب: جذور الثقافة الإسلامية في جمهورية مكدونيا للباحث: ناصر مهدي رمضاني. عمان: دارالمأمون، 2010، ص. 57-73.
3 محمد موفاكو، الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية (عالمالمعرفة)،ص54 ومابعدها.
4 Shih: Hasan Kaleshi, Kontributi i shqiptarëve në dituritë islame, (Shkup: Logos-A, 2015).
5 Shih: Nexhat Ibrahimi, Historia dhe kultura islame shqiptare, Vepra 10, (Shkup: Logos-A, 2009), f. 283-293.
6 Naser Ramadani, Zhvillimi i arsimit islam në Maqedoni gjatë shek. XV-XVI, (Shkup,Toper, 2010), f. 113.
7 Mahmud Hysa, Alamiada shqiptare II,(Shkup: Logos-A, 2000), f. 9.
8 Hafiz Ali Ulqinaku Mevludi Sherif, (Titograd, 1975), f. 3.
9 محمد موفاكو، الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، ص.51.
10 Shih: Ismail Ahmedi, Vepra e Hafiz Ali Korçës, (Shkup: Logos-A), I-X.
11 Shih: Ali M. Basha, Rrugëtimi i fesë islame në Shqipëri (1912-1967), (Tiranë, 2011).
12انظر:الإسلام والمسلمون في البلقان، مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2014،ص.87-103.
13 Shih: Maksim Gjinaj, Mehdi Gurra dhe Petrit Bezhani, Libra në gjuhën shqipe për Islamin (Bibliografi), vëllimi II, (Stamboll, 2006); Rexhep I. Shahini, Libri Islam nëshqip–Bibliografi e 333 titujve, (Prishtinë, 2007).
المراجع العربية
رمضاني، ناصر، جذور الثقافة الإسلامية في جمهورية مكدونيا، عمان: دار المأمون، 2010.
رمضاني، ناصر، مقدونيا...دور الجماعة الإسلامية، في كتاب: الإسلام والمسلمون في البلقان، مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2014.
موفاكو، محمد، الثقافة الألبانيّة في الأبجدية العربيّة، عام المعرفة، الكويت، 1403ه-1983م.
المراجع الأجنبية
Ahmedi, Ismail, Vepra e Hafiz Ali Korçës, Shkup: Logos-A, I-X.
Basha, Ali M., Rrugëtimi i fesë islame në Shqipëri (1912-1967), Tiranë, 2011.
Tupja, Edmond, Këshilla një përkthyesi të ri (botimi i dytë), Tiranë: Onufri, 2000.
Ulqinaku, Hafiz Ali, Mevludi Sherif, Titograd, 1975.
Kaleshi, Hasan, Kontributi i shqiptarëve në dituritë islame, Shkup: Logos-A, 2015.
Hysa, Mahmud, Alamiada shqiptare II, Shkup: Logos-A, 2000.
Gjinaj, Maksim, Mehdi Gurra dhe Petrit Bezhani, Libra në gjuhën shqipe për Islamin (Bibliografi), vëllimi II, Stamboll: 2006.
Ramadani, Naser, Zhvillimi i arsimit islam në Maqedonigjatë shekujve XV-XVI, Shkup: Toper, 2010.
Ibrahimi, Nexhat, Historia dhe kultura islame shqiptare, Vepra 10, Shkup: Logos-A, 2009.
Shahini, Rexhep I., Libri Islam në shqip – Bibliografi e 333 titujve, Prishtinë: 2007.