ما حدث حقاً في إيران

وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والإطاحة بمصدّق واستعادة الشاه
بالعودة إلى عام 2009، أشار الرئيس الأمريكي باراك أوباما عرضًا، خلال خطابه الشهير في القاهرة حول العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي، إلى أن “الولايات المتحدة قد لعبت إبان فترة الحرب الباردة دورًا في الإطاحة بحكومة إيرانية منتخبة ديمقراطيًّا”. كان أوباما يُشير بهذا إلى انقلاب 1953 الذي أطاح برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق وعزَّز حكم الشاه محمد رضا بهلوي. وتابع أوباما ليذكِّر مستمعيه أن إيران كذلك قد ارتكبت حصتها من الأخطاء في التعامل مع الولايات المتحدة. لكنه كان يقصد بوضوح الإشارة إلى دور واشنطن في الانقلاب على أنه أمر مُسلَّم به؛ وهذا إقرار علني بأن الولايات المتحدة تتحمل بعض المسئولية في خلافها المزمن مع الجمهورية الإسلامية.
ومع ذلك، كانت هناك سخرية فائقة في تسليم أوباما بدور الولايات المتحدة في انقلاب 1953. قد يكون تاريخ هذا الدور “معروفًا”، كما صرح الرئيس في خطابه، لكنه ليس ذا أساس قوي من الصحة. بل على العكس من ذلك، يستند هذا التاريخ إلى خرافتين متصلتين ببعضهما: أن دسائس المخابرات الأمريكية كانت العامل الأهم وراء سقوط مصدّق، وأن الاستراحة الديمقراطية الوجيزة في إيران قد فسدت في المقام الأول بسبب التدخل الأمريكي البريطاني. ومنذ عقود، عمل المؤرخون والصحافيون والخبراء على ترويج هاتين الخرافتين عبر إدخالهما ليس في الخطاب السياسي فحسب، بل أيضًا في الثقافة الشعبية: فمنذ وقت قريب للغاية، أشار فيلم “آرغو”( Argo)- وهو فيلم إثارة من إنتاج هوليوود حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم عام 2013- إلى أن الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 كانت ردا متأخرا على ما اقترفته الولايات المتحدة من ظلم قبل ذلك بربع قرن. وقد حظيت هذه الرواية حول الأحداث بدعم زعماء إيران الثيوقراطيين، الذين استغلوها لإذكاء نزعة معاداة أمريكا ولإخفاء حقيقة أن رجال الدين أنفسهم لعبوا دورًا أساسيًّا في الإطاحة بمصدّق.
في الواقع، كان تأثير المخابرات الأمريكية في أحداث 1953 قليل الأهمية في نهاية الأمر. فبصرف النظر عن أي شيء فعلته الولايات المتحدة أو لم تفعله، كان من المحتم أن مصدّق سيسقط وأن الشاه سيحتفظ بعرشه ويوسع سلطته. لكن حكاية الذنب الأميركي أصبحت مترسخة بشدة إلى درجة أنها تُشكِّل الآن كيفية فهم كثير من الأمريكيين لتاريخ العلاقات الأمريكية-الإيرانية، وتؤثر على طريقة تفكير الرؤساء الأميركيين حول إيران. خلال سعيها لفتح قنوات تواصل مع الجمهورية الإسلامية، قدمت الولايات المتحدة نفسها باعتبارها مُذنِبًا يُكفِّر عن آثامه السابقة، مما سمح للثيوقراطية الإيرانية التي زيفت التاريخ بألف طريقة ادعاء السمو الأخلاقي، ومنحها أفضلية غير مستحقة على واشنطن والغرب، حتى في مواقف لا علاقة لها بأحداث 1953 ويشكل فيها سلوك إيران سبب الخلاف الوحيد، مثل المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني.
كلُّ هذا يجعل من تقديم فهم أفضل وأكثر دقة للدور الحقيقي للولايات المتحدة في الماضي الإيراني أمرًا بالغ الأهمية. فالأمر أكبر بكثير من مجرد تصحيح كتب التاريخ. كما إن فهم الأمور على نحو صحيح قد يساعد الولايات المتحدة على تطوير مقاربة أقل انهزامية في التعامل مع الجمهورية الإسلامية الآن، وقد يحثُّ الإيرانيين -خصوصًا نخبة رجال الدين- على تحمل مسئولية ماضيهم.
وسطاء نزيهون
كانت إيران خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية دولة مُدمَّرة تتعافى مما جلبته الحرب من مجاعة وفقر. وكانت كذلك دولة ثرية، حيث كانت احتياطاتها النفطية الوفيرة تزود محركات الإمبراطورية البريطانية بالوقود. ولكنّ الحكومة الإيرانية لم تكن تسيطر على هذا النفط؛ إذ كانت مقاليد الأمور بيد شركة النفط الأنجلو-إيرانية، التي كانت الحكومة البريطانية تمتلك النسبة الأكبر من أسهمها. وبحلول أوائل الخمسينيات، حيث كانت النزعة القومية الساعية إلى تأكيد الذات تجتاح العالم النامي، بدأ كثير من الإيرانيين ينظرون إلى هذا النظام الناشئعن الحقبة الاستعمارية باعتباره مفارقة تاريخية ظالمة ومُهينة.
كانت الرغبة في استعادة السيطرة على الثروات الوطنية قوية لدرجة أنها وحدت الإصلاحيين الليبراليين، وطبقة الإنتلجنسيا، وبعض عناصر المؤسسة الدينية، والمهنيين من الطبقة المتوسطة في إيران ضمن حركة سياسية متماسكة. في قلب هذه الحركة كان يقف مصدّق، وهو محامٍ أرستقراطي ظلَّ يشارك في السياسة الإيرانية منذ سنٍّ مبكرة، حيث عمل في عدة مناصب وزارية وكان عضوا في البرلمان. قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، ظهر مصدّق في المشهد السياسي مجددا باعتباره بطل التيار الإيراني المعادي للاستعمار والمدافع عن القومية الإيرانية ونجح في تجميع الكثير من العناصر المتباينة داخل حزبه السياسي، حزب الجبهة الوطنية. لم يكن مصدّق شخصية ثورية؛ بل كان يكن الاحترام لتقاليد طبقته الاجتماعية وكان يؤيد الملِكيّة الدستورية. لكنه أيضًا كان يتطلع إلى إيران أكثر حداثة وديمقراطية، وكان برنامج حزبه يدعو، بالإضافة إلى تأميم النفط الإيراني، إلى تعليم عام أكثر جودة، وحكومة أكثر تمثيلًا للشعب، وإلى حرية الصحافة، والإصلاحات القضائية.
في إبريل 1951، صوَّت البرلمان الإيراني لصالح تعيين مصدّق رئيسًا للوزراء. وفي خطوة بارعة، أصر مصدّق على أنه لن يتسلم المنصب إلا إذا صدَّق البرلمان كذلك على قانون كان قد اقترحه ويقضي بتأميم صناعة النفط الإيراني. حصل مصدّق على ما أراد عبر تصويت بالإجماع، فأذعن الشاه الجبان لمطالب البرلمان، ودخلت إيران أزمة جديدة وأكثر خطورة.
أما المملكة المتحدة، الإمبراطورية الآخذة في الأفول والمكافحة للتكيُّف مع انحسار نفوذها وتأثيرها، فكانت تنظر إلى شركة النفط الأنجلو-إيرانية باعتبارها مصدرًا بالغ الأهمية للطاقة والربح، ورمزًا للقدر الضئيل من الهيبة الإمبراطورية الذي نجحت الدولة في الاحتفاظ به نهاية الحرب العالمية الثانية. لذلك ردَّت لندن على قرار التأميم بغضب شديد، فأمرت الشركاتِ الأوروبيةَ العاملة في إيران بأن تنسحب وإلا واجهت العقوبات، وبدأ الأسطول البريطاني الذي كان ما يزال قويا في اعتراض السفن التي تحمل النفط الإيراني بحجة أنها تنقل حمولات مسروقة. هذه الخطوات- بالإضافة إلى حقيقة أن شركات النفط الغربية العملاقة والمؤيدة للندن كانت تمتلك تقريبًا جميع ناقلات البترول الموجودة آنذاك- نجحت بكفاءة في محاصرة صادرات إيران من النفط. وبحلول عام 1952، توقَّفت مصفاة عبادان الإيرانية عن العمل، المصفاة الأكبر في العالم آنذاك.
سعى الرئيس الأمريكي هاري ترومان منذ بداية أزمة التأميم إلى تسوية النزاع، فالروابط الوثيقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لم تدفع واشنطن للوقوف مع حليفتها بشكل تلقائي. وترومان كان أظهر للتو بعض الاحترام لاستقلال إيران ومصالحها الوطنية. في عام 1946، حاول الزعيم السوڤييتي جوزيف ستالين الاستيلاء على المقاطعات الإيرانية الشمالية برفضه سحب القوات السوڤييتية التي انتشرت هناك خلال فترة الحرب. اعترض ترومان، وتمسَّك بالحفاظ على سلامة الأراضي الإيرانية حتى ولو أدى ذلك إلى القضاء على تحالفه المتهالك أصلا مع السوڤييت، فتراجع ستالين. على نحو مشابه، عندما وصل الأمر حد الحرب للسيطرة على النفط الإيراني، لعب الأمريكان دور الوسيط النزيه. أرسل ترومان عددًا من المبعوثين إلى طهران حثوا البريطانيين على الاعتراف بشرعية قانون التأميم الصادر عن البرلمان الإيراني، بينما ضغطوا في الوقت نفسه على الإيرانيين لتقديم تعويض عادل مقابل الممتلكات البريطانية المُصادَرة.
في غضون ذلك، واصلت واشنطن تقديم المساعدات الاقتصادية لإيران كما كانت تفعل منذ اندلاع الحرب، وهي مساعدات أسهمت في تخفيف آلام الحصار النفطي البريطاني. كذلك قام الأمريكان بثني البريطانيين عن عزمهم استخدام القوة العسكرية لإجبار إيران على التراجع عن قرارها، رافضين أيضًا الالتماسات البريطانية للقيام بعملية سرية مشتركة للإطاحة بمصدّق.
غير أن وساطة ترومان لم تحقق الغرض، بسبب تعنّت مصدّق أكثر منه بسبب أية خطوات خاطئة قامت بها أميركا. فقد بدا أن مصدّق لم يأخذ بعين الاعتبار الثمن الاقتصادي الباهظ للحفاظ على استقلال إيران وكبريائها الوطني. وبطبيعة الحال، رفض مصدّق وحلفاؤه أي اقتراح من الولايات المتحدة يتضمَّن أي قدر من مشاركة البريطانيين في قطاع النفط الإيراني. واتضح في النهاية أن تعريف مصالح إيران النفطية بتعابير وجودية وقومية صارمة كبّل يدي رئيس الوزراء وجعل أي حل وسط موازيا لضياع سيادة الدولة واستقلالها.
الصورة الحقيقية
بحلول عام 1952، أوصل الخلافُ حول النفط الاقتصادَ الإيراني إلى حافة الانهيار. فقد أخفقت طهران في تصدير نفطها والتهرُّب من الحصار البريطاني، وحيث أصبحت محرومة من المصدر الأساسي للدخل فكانت تواجه عجزًا متزايدًا في الميزانية وتجد صعوبة في دفع الرواتب. ومن ثم، بدأت واشنطن تخشى أن يتسبب مصدّق، بوقوفه في مواجهة البريطانيين، في تدهور الاقتصاد الإيراني على نحو خطير لدرجة أن يكون استمرار حكمه بمثابة تمهيد الطريق لحزب توده، الحزب الشيوعي الإيراني، لأن يتصدى لمصدّق ويستولي على السلطة.
وفي الواقع، وحيث إن الخلاف امتد بلا نهاية، فقد واجه مصدّق انشقاقًا داخليًّا متزايدًا. كانت قضية التأميم لا تزال قضية شعبية، إلا أن الشعب كان يزداد ضجرًا من عناد رئيس الوزراء ورفضه الموافقة على العديد من الحلول الوسط. وتعامل رئيس الوزراء مع عاصفة الانتقاد بتوسيع وصايته عن طريق وسائل مشكوك فيها من الناحية الدستورية، حيث طلب سلطات استثنائية من البرلمان وسعى إلى تولِّي مسئولية القوات المسلحة ووزارةالحربية، وكان كلاهما تحت سيطرة الشاه منذ وقت طويل.
وحتى قبل أن تحيك أجهزة المخابرات الغربية مؤامراتها، فقد أدى سلوك مصدّق بالفعل إلى نفور شركائه في التحالف. وبدأت النخبة المثقفة والنقابات المهنية الإيرانية تغضب بسبب النزعة السلطوية المتزايدة لدى رئيس الوزراء. كذلك بدأت القاعدة الداعمة لمصدّق داخل الطبقة الوسطى، مع استشعارهم الخوف نتيجة التدهور المستمر للاقتصاد، بدأت تبحث عن بديل وانساقت نحو المعارضة المؤيدة للشاه، مثلما فعل الضباط، والذين عانوا من عمليات استبعاد كثيرة.
كما أن مؤيدي مصدّق من رجال الدين، والذين كانوا قد صادقوا على حملة التأميم بل شجعوا الشاه على معارضة المخططات الإمبريالية للمملكة المتحدة، بدأوا الآن يعيدون النظر. لم يكن رجال الدين مرتاحين قط بشكل كامل لوَلَع مصدّق بالتحديث وإلا كانوا سيفقدون ما يحظون به من احترام من قِبَل الشاه المحافظ المعرَّض للخطر. وحيث إنهم يرون الاقتصاد الإيراني ينهار ويخشون، مثل واشنطن، أن تؤدي الأزمة إلى استيلاء الشيوعيين على السلطة، فقد شرعت القيادات الدينية مثل آية الله أبو القاسم كاشاني في تغيير ولاءاتهم بذكاء. (يحاول رجال الدين في الحكم منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية في 1979 إخفاء الحقيقة المزعجة أن الملالي، عند مرحلة حرجة، وقفوا إلى جانب الشاه).
بلغت الأزمة ذروتها أخيرًا في فبراير 1953 عندما ضاق البلاط الملكي ذرعًا بمحاولات مصدّق لتقويض المَلَكية، فأعلن فجأة أن الشاه يعتزم مغادرة البلاد لأسباب صحية غير محددة، وهم يعرفون أن الشعب سيفهم هذه الخطوة على أنها إشارة إلى استياء الشاه من مصدّق. بدأت المناورة تؤتي ثمارها، وأدَّت أخبار الرحيل المُزمَع للملك إلى مواجهة خطيرة بين مصدّق وقائمة منتقديه المتزايدة. انضم كاشاني إلى ضباط الجيش الساخطين والساسة المستبعدين وناشدوا الشاه علانية أن يبقى. اجتاحت المظاهرات طهران وكثيرًا من المدن الإقليمية، بل حاولت الحشود نهب مقر إقامة مصدّق. وحين استشعر الشاه الجو العام، ألغى رحلته.
هذه الحادثة ذات أهمية خاصة؛ لأنها أظهرت مدى عمق المعارضة الإيرانية الحقيقية لمصدّق، وليس هناك أي دليل على أن المخابرات الأمريكية هي التي دبَّرت المظاهرات. كذلك ساعدت المظاهرات التحالف المعارض لمصدّق على أن يتماسك ويزداد صلابة. في الواقع، سيكون هذا التحالف نفسه، مع دعم أكبر من القوات المسلحة، هو رأس الحربة في الإطاحة بمصدّق بعد ذلك بستة أشهر.
الموقف يزداد تعقيدًا
أعطت أحداث فبراير انطباعًا عن إحباط المؤسسة الرسمية في واشنطن. ورفعت المخابرات الأمريكية تقريرًا إلى الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، والذي انتقلت إليه المشكلة الإيرانية عندما تولى منصب الرئاسة قبل شهر من ذلك، جاء في هذا التقرير أن “المؤسسة الملكية ربما تحظى بدعم شعبي أكثر مما كنا نتوقع”. وأرسل وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس برقية إلى السفارة الأمريكية في طهران بأنه “يبدو أن هناك فئة معارضة حقيقية وجريئة نسبيًّا سواء داخل المجلس [البرلمان الإيراني] أو خارجه. يمكننا أن نجمع قيادات الجيش وعددًا من المدنيين الموالين للشاه والذين قد يتحركون إذا أعطاهم الشاه قيادة حقيقية، أو حتى لو قَبِل فقط بخطوة تعيين حكومة جديدة”.
بعد المظاهرات، أصبح المجلس هو المقر الأساسي للتحريض ضد مصدّق. ومنذ صعود مصدّق إلى رئاسة الوزراء، فإن تهوره الظاهر في صناعة القرار ، وعجزه عن إنهاء أزمة النفط، وتضييق الدائرة المحيطة به إلى عدد قليل من المعاونين الموثوق بهم، كل هذا أدَّى إلى انصراف كثير من أعضاء البرلمان عنه تدريجيا. وردًّا على ذلك، قرر رئيس الوزراء أن يتخلص من التهديد ببساطة عن طريق حل المجلس. وتطلّب هذا تنفيذ حيلة مشكوك فيها من الناحية القانونية: ففي الرابع عشر من يوليو، استقال جميع ممثلي الجبهة الوطنية الموالين لمصدّق من مواقعهم مرة واحدة، وبذلك حرموا المجلس من النصاب اللازم للعمل. ثم دعا مصدّق إلى استفتاء شعبي لتقرير مصير المجلس التشريعي المصاب بالشلل. إلا أن هذه الخطوة كانت بالكاد مجرد نية حسنة وإشارة ديمقراطية؛ فقد فسد الاستفتاء بسبب المقاطعة وعمليات التصويت المخالفة وعنف الغوغاء، ولم تكن النتائج مفاجئة لأي أحد: تمت الموافقة بنسبة 99%على اقتراح مصدّق بحل البرلمان. لقد فاز مصدّق بالاستفتاء المزور، إلا أن هذه الخظوة كلَّفته ما تبقى من شرعيته المهترئة.
في غضون ذلك، بدا مصدّق مُصمِّمًا على فعل كل ما يمكن أن يفعله لتأكيد أسوأ مخاوف واشنطن تجاهه. فقد ظن رئيس الوزراء أنه يمكنه استغلال قلق واشنطن بشأن احتمال تزايد التأثير السوڤييتي في إيران ليضمن مساعدات أكثر من واشنطن. وخلال لقاء في يناير مع السفير الأمريكي لوي هندرسون، حذّر مصدّق هندرسون بأنه إذا لم تقدم له الولايات المتحدة المساعدات المالية الكافية، “ستقوم ثورة في إيران خلال ثلاثين يومًا”. كما هدَّد مصدّق ببيع النفط لدول الكتلة الشرقية وبفتح قنوات للتواصل مع موسكو لطلب المساعدة إذا لم تفعل واشنطن ما هو متوقع منها. بلغت هذه التهديدات والتوسلات ذروتها في يونيو عندما كتب مصدّق إلى أيزنهاور مباشرة يلتمس المزيد من المساعدات الاقتصادية الأمريكية مؤكِّدًا أنه إذا لم يحصل على هذه المساعدات فورًا، “فإن أية أجراءت تُتَّخذ في الغد لتعويض إهمال اليوم قد تأتي بعد فوات الأوان”. مضى شهر تقريبًا قبل أن يرد أيزنهاور على مصدّق، ثم أخبر أيزنهاور رئيس الوزراء بشكل قاطع أن المخرج الوحيد من ورطته هو أن يُسوِّي الخلاف حول النفط مع المملكة المتحدة.
ولكن، عند هذا الحد، كانت واشنطن تفكر بالفعل وبشكل جاد في خطة قدمها البريطانيون لإسقاط مصدّق. فقد حدَّدت المخابرات البريطانية، MI6، شبكة من الشخصيات المعارضة لمصدَّق وفتحت قنوات تواصل معها، وهي شخصيات على استعداد للتحرك ضد رئيس الوزراء بدعم سري من أمريكا وبريطانيا. كان الجنرال فضل الله زاهدي من بين هذه الشخصيات، وهو ضابط ذو علاقات جيدة وعمل سابقًا في وزارة مصدّق ولكنه ترك منصبه بعد أن خاب أمله في قيادة رئيس الوزراء وانخرط هو نفسه في سياسات المعارضة. كذلك كان لدى بريطانيا، بناء على تاريخ تدخلاتها في إيران، شبكة من عملاء المخابرات، من بينهم أعضاء في البرلمان وصحافيون، قدمت لهم الدعم المالي والرعاية. كذلك يمكن للندن أن تعتمد على عدد من تجار سوق البازار ذوي النفوذ، وبدورهم كان تحت تصرفهم عصابات من القتلة وقُطَّاع الطرق المستعدين للقيام بمظاهرات عنف في الشوارع.
اعترضت المخابرات الأمريكية نوعًا ما على هؤلاء العملاء البريطانيين، حيث كانت المخابرات الأمريكية تعتقد أن هؤلاء العملاء “مبالغ فيهم وفي قدراتهم إلى حد كبير”. ومع ذلك، وبحلول شهر مايو، تبنَّت وكالة الاستخبارات الأمريكية الخطوط العريضة الأساسية لخطة بريطانية لتدبير الإطاحة بمصدّق. كما اشتركت السفارة الأمريكية في طهران في الخطة: فقد أكَّد هندرسون لإدارة أيزنهاور في برقية إلى واشنطن أن “معظم الساسة الإيرانيين الأصدقاء للغرب سيرحبون بالتدخُّل الأمريكي السري الذي سيساعدهم على تحقيق طموحاتهم السياسية الفردية أو الجماعية”.
أُطلِق على المؤامرة الأمريكية البريطانية المشتركة للتدخل السري الاسم الكودي “عملية أياكس” TPAJAX. وظهر زاهدي باعتباره الجزء الأهم في الخطة، حيث اعتبره الأمريكيون والبريطانيون أقوى منافس لمصدّق. اقتضت المؤامرة من المخابرات الأمريكية والبريطانية أن تشن حملة إعلامية تهدف إلى إثارة الشبهات حول مصدّق، وأن تدفع للصحافيين ليكتبوا أخبارًا تنتقد رئيس الوزراء وتتهمه بالفساد والجوع للسلطة، بل وأنه ذو أصول يهودية؛ وهذه محاولة صريحة لاستغلال المشاعر المعادية لليهود، والتي كانت المخابرات الغربية تعتقد خطأ أنها كانت منتشرة في إيران في ذلك الوقت. في هذه الأثناء، ستقوم شبكة من العملاء الإيرانيين الذين يعملون لصالح الأمريكان والبريطانيين بتنظيم مسيرات ومظاهرات وتشجيع عصابات الشوارع وزعماء العشائر على تحريض أتباعهم على ارتكاب أعمال عنف وشغب ضد مؤسسات الدولة. وكان من المفترض أن يعمل كل هذا على تأجيج الموقف المتداعي بالفعل داخل البلاد، ومن ثم تمهيد الطريق للشاه لإقالة مصدّق.
في الواقع، كان الشاه الفاعل الأساسي في المؤامرة؛ وذلك لأنه احتفظ بولاء القوات المسلحة وكان هو الوحيد الذي لديه سلطة إقالة مصدّق. وجاء في تقرير الملحق العسكري الأمريكي في إيران في ربيع 1953 أنه “لو كان الشاه أصدر الأمر، لاستجاب لأوامره أكثر من 99% من الضباط، على الأرجح، مع شعور بالارتياح وأمل في الوصول إلى حالة من الاستقرار”.
إذا لم تنجح في البداية
في الحادي عشر من يوليو، صدَّق أيزنهاور على الخطة، وشرعت المخابرات الأمريكية والبريطانية في التنفيذ. ومن المؤكَّد أن عملاء المخابرات الغربية قد وجدوا أرضًا خصبة للدسائس، حيث أدت الفوضى التي اكتسحت إيران إلى فضح موقف مصدّق بالفعل وإضعافه على نحو خطير. وبدا أنه لم يتبقَّ إلا أن يُقيل الشاه رئيس الوزراء رسميا.
ولكن ثبت أن تطويع الملك الإيراني أكثر صعوبة مما توقع الأمريكان والبريطانيون في البداية. للوهلة الأولى، بدا الشاه متقبِّلًا للمؤامرة؛ حيث كان قد فقد الثقة في رئيس وزرائه بل واحتقره. لكن من الواضح كذلك أنه كان عازفًا عن فعل أي شيء يزيد من زعزعة استقرار بلاده. كان الشاه رجلًا مترددًا بطبيعته واحتاج إلى الكثير من الطمأنة قبل أن يباشر عملًا محفوفًا بالمخاطر. ونجحت المخابرات الأمريكية في حث شقيقته التوأم، الأميرة أشرف، على أن تقنع أخاها بأية طريقة. كذلك كان ممن يُلحُّ على الشاه بإصدار مرسوم إقالة مصدّق كلٌّ من الجنرال هيربرت نورمان شوارتسكوف، وهو ضابط في الجيش الأمريكي كان قد درَّب شرطة إيران وكان يتمتع بقدر كبير من النفوذ في إيران، وكيرميت روزفلت، وهو ضابط في المخابرات الأمريكية وكان قد ساعد في تصميم المؤامرة. وأخيرًا، في الثالث عشر من أغسطس 1953، وقَّع الشاه مرسومًا ملكيا بإقالة مصدّق وتعيين زاهدي رئيسًا جديدًا للوزراء.
أراد زاهدي ومؤيدوه أن يتأكدوا من أن مصدّق قد تلقَّى المرسوم بشخصه، ومن ثم انتظروا أكثر من يومين قبل إرسال الحرس الملكي للشاه ليوصلوا الأمر إلى مقر إقامة رئيس الوزراء في وقت كان زاهدي على يقين من أن مصدّق سيكون هناك. ولكن، في ذلك الوقت، كان ثمة شخص ما قد أفشى السر لمصدّق. رفض مصدّق تلبية الأمر، وبدلًا من ذلك أمر فريقه الأمني الشخصي باعتقال مَن أرسلهم الشاه. وهنا اختبأ زاهدي، وفرَّ الشاه من البلاد، حيث غادر أولا إلى العراق ثم إلى إيطاليا. وبدا أن المؤامرة باءت بالفشل. ظهر مصدّق في الإذاعة على الهواء مباشرة وأعلن أنه قد أحبط عملية انقلاب بينما تجاهل ذكر أن الشاه قد أقاله من منصبه. في الواقع، كان مصدّق، وليس الشاه أو مناصروه الأجانب، هو الذي أخفق في الالتزام بدستور إيران.
بعد الفشل الواضح للانقلاب، أُصيبت واشنطن ولندن بحالة من الاستسلام. ووفقًا لما جاء في نشرة داخلية أعدتها المخابرات الأمريكية في 1954، فبعد أن رفض مصدّق تنفيذ أمر الشاه، قررت وزارة الخارجية الأمريكية أن العملية “اختُبرت وفشلت”، وكذلك كان الموقف الرسمي البريطاني كئيبًا: “علينا أن نأسف لأننا لا يمكننا التفكير في مواصلة المعركة”. أما الجنرال والتر بيديل سميث، الصديق الحميم لأيزنهاور ورئيس الأركان، والذي كان يعمل حينئذ كسكرتير ثانٍ لوزير الخارجية، فكان مُكلَّفًا بمهمة لا يُحسد عليها وهي إبلاغ الرئيس بما حدث. كتب سميث في مذكرة رسمية إلى أيزنهاور:
لقد فشلت العملية…. في الواقع، كان انقلابًا مضادا، حيث تصرف الشاه في حدود سلطته الدستورية ووقع مرسوم استبدال مصدّق، ولكن الفتى العجوز لم يقبل بهذا واعتقل مَن أرسله الشاه وكلَّ مَن استطاع الوصول إليه ممن تورَّط في العملية. علينا الآن أن ننظر نظرة جديدة تمامًا إلى الموقف الإيراني، وربما علينا أن نقترب من مصدّق إذا أردنا أن ننقذ أي شيء هناك.
كان البيت الأبيض وقيادة جهاز المخابرات الأمريكية والسفارة الأمريكية في طهران، كانوا جميعا متفقين على أن المؤامرة فشلت وأنه حان وقت المُضي قُدُمًا. ولكن بدا أن بعض العملاء في مكتب المخابرات الأمريكية في طهران كانوا يعتقدون أنه لا تزال هناك فرصة لنجاح زاهدي لو وافق هو نفسه. وربما كان المكتب على تواصل مع زاهدي؛ فليس واضحًا هل تواصل معه بالفعل أم لا. لكن الواضح هو أنه عند هذا الحد، أصبحت محاولة إنقاذ الانقلاب مبادرة إيرانية إلى حد كبير.
شخصية تراجيدية
عمَّت الفوضى طهران وتغيرت الأوضاع السياسيةسريعًا على أثر الانقلاب الفاشل. وهنا أحس حزب توده بأن الفرصة قد حانت أخيرًا، فنزل أعضاؤه إلى الشوارع بأعداد كبيرة وهم يُلوِّحون برايات حمراء ويحطمون رموز الملكية. كما أن الأعضاء الأكثر راديكالية في الجبهة الوطنية، مثل وزير الخارجية حسين فاطمي، انضموا إلى المعركة منددين بالشاه. كذلك وجَّه أحد المحررين في صحيفة باختر امروز (الغرب المعاصر)، التي كان يديرها حسين فاطمي، نقدًا قاسيا للبلاط الملكي ووصفه بأنه “ماخور، ومكان قذر وفاسد”، ووجَّه محرر آخر في الصحيفة ذاتها تحذيرًا إلى الشاه بأن الأمة “متعطشة للثأر وتريد أن تراك على المشنقة”. تسبَّب مثل هذا الخطاب في إصابة ضباط الجيش ورجال الدين بالذعر، وأثار كذلك كثيرًا من الإيرانيين الذين كانوا لا يزالون يُقدِّرون الملك. كما أن مصدّق نفسه لم يدع إلى تسريح الملك. ورغم محاولات مصدّق لتوسيع سلطاته على حساب الملك، إلا أنه بقي وفيًّا لرؤيته بشأن الملكية الدستورية.
أصدر الشاه من المنفى بيانًا يعلن فيه أنه لم يتنازل عن العرش، ويؤكد على عدم دستورية تمسك مصدّق بالسلطة. وفي غضون ذلك، كان زاهدي وشركاؤه في المؤامرة مستمرين في المقاومة. فقد فتح زاهدي قنوات تواصل مع وحدات الجيش في العاصمة وفي الأقاليم والتي ظلّت على ولائها للشاه وأخبر قيادات هذه الوحدات بأن يستعدوا للتحرك. كذلك سعى زاهدي إلى نشر مرسوم الشاه بإقالة مصدّق وتعيين زاهدي نفسه رئيسًا للوزراء، ويبدو أن مكتب المخابرات الأمريكية في طهران قد ساعد في نشر الرسالة عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية.
من الأمور المفيدة وذات الدلالة الجهود المبذولة لنشر مرسوم الشاه وصمت مصدّق المحسوب. فهناك روايات كثيرة حول الانقلاب، بما في ذلك رواية روزفلت، تصور الشاه على أنه حاكم غير شعبي وغير شرعي ويحتفظ بالعرش بفضل تشجيع الأجانب فقط. ولكن لو كان الأمر هكذا، فما كان زاهدي وحلفاؤه ليبذلوا هذه الجهود في محاولة نشر اختيارات الشاه. وكونهم فعلوا ذلك يشير إلى أن الشاه كان لا يزال يتمتع بقدر كبير من الدعم الشعبي والدستوري، على الأقل في أعقاب انقلاب مصدّق المضاد مباشرة؛ وفي الواقع، فقد أدى رحيل الشاه إلى قيام ثورات شعبية على طول البلاد.
لم تغير المظاهرات آراء ممثلي الولايات المتحدة في إيران بشكل جوهري. وكما يتذكر هندرسون فيما بعد، فإنه في البداية لم يأخذ أمر الاضطرابات بجدية وأرسل برقية إلى وزارة الخارجية بأن “هذه الأحداث، على الأرجح، ذات أهمية ثانوية”. ولكن سرعان ما ضجَّت إيران بالنشاط والزخم. فقد سارع رجال الدين بالدخول في المعركة مع هجوم الملالي على مصدّق والجبهة الوطنية. كما حثَّ كاشاني وشخصيات دينية أخرى مهمة أتباعهم على النزول إلى الشوارع. وعلى خلاف بعض المظاهرات التي حدثت قبل ذلك خلال الصيف، فإن هذه المظاهرات لم تكن من تدبير عملاء المخابرات الأمريكية والبريطانية. وجاء في تقرير كتبه أحد موظفي السفارة الأمريكية وهو يشعر بالمفاجأة أنه “يبدو أن الحشود يقودها ويوجهها مدنيون وليس الجيش. والمشاركون في المظاهرات ليسوا من فئة عصابات الشوارع، وهي الفئة المسيطرة عادة في المظاهرات الأخيرة في طهران. ويبدو أن المشاركين جاءوا من جميع طبقات الشعب، بما في ذلك العمال والموظفون وأصحاب المتاجر والطلبة، إلخ”. وأشار تقييم للموقف صادر عن المخابرات الأمريكية إلى أن “هروب الشاه كشف للجماهير بطريقة مثيرة إلى أي مدى ذهب مصدّق بعيدًا، وحوَّل الشعب إلى قوة غاضبة مؤيدة للشاه”.
كان مصدّق مُصمِّمًا على وقف الموجة الثورية وأمر الجيش باستعادة النظام. ولكن بدلا من ذلك، انضم كثير من الجنود إلى المظاهرات، كما دوَّت في العاصمة هتافات “عاش الشاه!”. وفي التاسع عشر من أغسطس، أجرى رئيس الأركان الجنرال تقي رياحي، والذي ظل مُواليًا لمصدّق حتى ذلك الوقت، أجرى اتصالًا هاتفيا برئيس الوزراء يعترف له بأنه فقد السيطرة على العاصمة وعلى الكثير من وحداته العسكرية. كما سيطرت وحدات الجيش الملكية على محطة الإذاعة الرئيسية في طهران وعلى كثير من الوزارات الحكومية الهامة. وحين رأى مصدّق أن خياراته تضيق شيئًا فشيئًا، اختبأ في منزل أحد جيرانه. ولكن رئيس الوزراء كان رجل قانون لفترة طويلة ويعي أنه لن يبقى هاربًا لوقت طويل، وسرعان ما سلَّم نفسه. بعد ذلك بشهور قليلة، وُجّهت إلى مصدّق تهمة الخيانة العظمى، وكانت عقوبتها الإجبارية الإعدام. ولكن نظرًا لسنِّه وخدمته الطويلة للبلاد ودوره في تأميم صناعة النفط الإيراني، خُفِّفت العقوبة إلى السجن ثلاث سنوات. وعمليا، قضى مصدّق عقوبة السجن مدى الحياة؛ إذ قضى الأربعة عشر عامًا المتبقية من عمره قيد الإقامة الجبرية في قريته.
كان مصدّق رجل سياسة ذا مبادئ يُكِنُّ احترامًا كبيرًا لمؤسسات إيران وللنظام الدستوري، وقضى حياته العامة كلها يدافع عن حكم القانون والفصل بين السلطات. ولكنَّ ضغط الحكم في وجود أزمة أبرز الجوانب المزعجة في شخصيته. كما أن افتقاره للتأييد الشعبي أعماه عن الحلول الوسط التي كان من الممكن أن تحل الخلاف حول النفط مع المملكة المتحدة، ويكون بذلك قد حافظ على الاقتصاد الإيراني. والأسوأ من ذلك، أن مصدّق -عضو البرلمان ورجل الدستور وبطل الإصلاح الديمقراطي- تحوّل إلى شخص غوغائي شعبوي يزور الاستفتاءات ويهدد خصومه ويحل البرلمان ويطلب سلطات استثنائية.
هناك شيئان صحيحان في الوعي الشعبي: أن مصدّق كان شخصية تراجيدية بالفعل، وأنه كان ضحية. ولكن تراجيديته كانت لأنه لم يستطع أن يجد مخرجًا من مأزق كان هو نفسه مسئولًا عن إيجاده إلى حد كبيره. وكذلك كان ضحية لنفسه، أكثر من كونه ضحية لأي شخص آخر.
خرافة البصمات الأمريكية
منذ عام 1953، وخصوصًا منذ قيام الثورة الإسلامية في 1979 والتي أطاحت بالشاه، جرى التعتيم على حقيقة الانقلاب عبر الحكايات المُلفَّقة من قِبَل الأمريكيين والإيرانيين على السواء لخدمة مصالح خاصة. بذلت الجمهورية الإسلامية جهودًا كثيرة لنشر فكرة أن الانقلاب والتآمر ضد مصدّق برهنا على عداء أمريكي شديد تجاه إيران. وقد حضر رجال الدين الثوريون في هذا التشويه من خلال الروايات الأمريكية التي تفرط في المبالغة في أهمية الدور الأمريكي في تنحية مصدّق عن السلطة. ومن أول هذه الروايات تلك التي ظهرت في كتاب روزفلت الصادر في 1979 والذي يغلب عليه تضخيم الذات، وهو كتاب “الانقلاب المضاد: الصراع من أجل السيطرة على إيران”. نجد في روايته ذات الطابع الاستشراقي، أن روزفلت هبط في طهران ومعه عدد من الحقائب المليئة بالنقود وتلاعب بسهولة بالإيرانيين الجهلاء لتنفيذ مخططات واشنطن.
وعلى العكس من رواية روزفلت، يكشف سجل الوثائق أن إدارة أيزنهاور لم تكن تسيطر على الأمور إلا قليلًا، بل كانت في الواقع مندهشة للطريقة التي انتهت بها الأحداث. فقد كتب هندرسون برقية إلى واشنطن عشية انتصار الشاه، جاء فيها أن السبب الحقيقي وراء نجاح الانقلاب كان أن “معظم القوات المسلحة وأعدادًا هائلة من المدنيين الإيرانيين موالون بطبيعتهم للشاه الذي تعلموا أن يؤمنوا بأنه رمز الوحدة الوطنية رمز استقرار البلاد كذلك”. وما إن اجتازت إيران صراعها الداخلي الجبَّار، حتى ظهر أن المخابرات الأمريكية ذاتها تدرك أنه قد ثبت أن دسائسها لم تكن مهمة إلى حد كبير. ففي الحادي والعشرين من أغسطس، كتب تشارلز كابيل، القائم بأعمال مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، كتب تقريرًا إلى أيزنهاور جاء فيه أن “ما حدث فجأة من ارتفاع سريع قوي في رد الفعل الشعبي والعسكري ضد حكومة رئيس الوزراء مصدّق قد أدى، وفقًا للبرقيات الأخيرة من طهران، إلى احتلال المدينة فعليا من قِبَل قوات تعلن ولاءها للشاه ولرئيس وزرائه المعين زاهدي”.
وبالإضافة إلى المبالغة في الدور الأمريكي والبريطاني في تنسيق إسقاط مصدّق واستعادة الشاه، فإن الرواية التقليدية للانقلاب تتجاهل أن الشاه كان لا يزال محبوبًا في أوائل الخمسينيات. حيث لم يكن، بعد، قد أصبح ذلك الشخص المصاب بجنون العظمة خلال السبعينيات، وإنما كان لا يزال ملكا شابا مترددا يُقدِّر رجال الدولة الإيرانيين الأكبر سنا وآيات الله العظمى ويحترم حدود سلطاته.
ولكن الرواية الخرافية لأحداث 1953 ظلَّت موجودة، وذلك إلى حد ما لأنه منذ الثورة الإسلامية فإن إظهار الولايات المتحدة على أنها الوغد اللئيم يخدم مصالح زعماء إيران. وثمة سبب آخر لاستمرار وجود الرواية الخرافية وهو أنه في أعقاب الهزيمة في ڤيتنام وفي بداية تحقيقات الكونغرس في منتصف السبعينيات والتي كشفت تورط المخابرات الأمريكية في محاولات سرية للتحريض على الانقلابات في الخارج، بدأ كثير من الأمريكيين يتشككون في نزاهة مؤسساتهم ودوافع حكومتهم؛ ومن ثم ظهر بالكاد أن افتراض أن المخابرات الأمريكية كانت القوة الأساسية وراء الانقلاب في إيران أمر بعيد الاحتمال.
ومهما يكن السبب وراء استمرار وجود الخرافات حول أحداث 1953، فإنه ماضٍ قديم على الأمريكيين والإيرانيين أن يتجاوزوه. وحيث إن واشنطن وطهران تكافحان الآن لإنهاء عداوتهما الممتدة، فسيكون من المفيد للغاية لو لم تعد الولايات المتحدة تشعر بالحاجة للاعتذار ضمنيا عن دورها في الإطاحة بمصدّق. وكذلك الأمر بالنسبة للجمهورية الإسلامية، فعندما تتعامل مع الخلافات الداخلية وغموض مستقبلها، فسيكون من المفيد أيضًا أن تتخلّى عن أفكارها القديمة عن كونها ضحية، وعن السيطرة الأجنبية، وأن تعترف بأن الإيرانيين أنفسهم كانوا الأبطال الأساسيين في واحدة من أهم نقاط التحول في تاريخ بلادهم.
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة